وحتى قبل الوجود الدائم للبنك، ورغم صعوبة الوضع الأمني، كان العمل مستمرا. وقد تم تحقيق عدد من الإنجازات الهامة شملت، على سبيل المثال لا الحصر، تشييد وإعادة تأهيل المدارس، إعادة بناء المستشفيات، تدريب الممرضات والأطباء، تحسين مياه الشرب لأكثر من 600 ألف عراقي، وإنشاء العمود الفقري للاتصالات بين البنوك.
ومع هذا فقد أتى ذلك بتكلفة إضافية بسبب العديد من العقبات اللوجستية التي كان يتعين التغلب عليها. فقد كانت المشاريع تدار عن بعد بينما يتم التخطيط لها وتعقد اجتماعات المشرفين عليها في بلد ثالث مثل لبنان والأردن.
ومنذ ذلك الحين بدأت أصوات الإنذار تتوارى في المنطقة الخضراء، فيما شهد الوضع الأمني تحسنا ثابتا باطراد. كما بدأ النفط يتدفق من جديد.وأتيحت الفرصة لمزيد من المشاركة، وعقدت ماري-هيلين العزم على اقتناصها.
وتشهد العلاقة بين البنك الدولي والعراق تطورا مستمرا، وقد اكتمل الإعداد للمشاورات من أجل وضع استراتيجية للشراكة القطرية الكاملة.ومن أجل تعميق فهمها لمختلف التحديات التي يواجهها العراق حاليا، وتحديد أفضل السبل التي يمكن أن تساعد البنك الدولي على مواجهتها، استغلت ماري-هيلين فرصة تحسن الأمن لكي تسافر لمختلف أنحاء البلاد.ولدى عوتها، شاطرتنا بعض الإنطباعات التي كونتها خلال الجولات التي قامت بها في العراق على مدى العام المنصرم.
ما هي أكبر التحديات الإنمائية التي تواجه العراق الآن؟
ماري-هيلين بريكنيل: أعتقد أننا نحتاج إلى التفكير في العراق بشكل مختلف: فالعراق لا يشهد تنمية، وينبغي أن نتحدث عن إعادة تنميته. ففي وقت من الأقات كان العراق بلدا متقدما للغاية يضمن حقوق المرأة – من حق التصويت، إلى توفير البيئة الاقتصادية التي تسمح لها بالالتحاق بالجامعة وفرص الحصول على الدخل- وهذا فقط إذا نظرنا إلى الجانب المتعلق بالمساواة، لكن العراق كان أيضا وإلى حد كبير في صدارة دول منطقة الشرق الأوسط فيما يتعلق بالصحة والتعليم.وأنا أعرف الكثير من مواطني الشرق الأوسط الذين أبلغوني أنهم كانوا يتوجهون إلى بغداد للدراسة.أما اليوم، فالعراق لا يستطيع حتى ضمان مستوى مناسبا من التعليم الابتدائي لمواطنيه كافة.فقد غدا متخلفا عن الزمن، حيث أصبحت الأشياء التي كانت في الصدارة منذ 30 عاما تبدو اليوم بالية. ولهذا ينبغي إعادة تنمية هذه الأنظمة، وتقديم الرعاية الصحية الملائمة والتطعيمات للأطفال. فتأثير التغذية على تردي نوعية الحياة للعراقيين له مدلولات هائلة بالنسبة لنمو الأطفال بشكل خاص والسكان بشكل عام.ويبرز تقرير حديث لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) توجها يثير القلق بشأن سوء التغذية، وتوقف نمو أطفال العراق، وكذا زيادة معدلات المرض والوفاة بين الفئات العمرية منذ الولادة وحتى الشهر الثاني عشر. حتى على الرغم من أن نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي يظهر أن متوسط أجر العراقي الواحد يزيد عن 3 آلاف دولار سنويا- وهذا ببساطة إجمالي دخل البلاد من عائدات النفط مقسمة على عدد السكان، وليس ترجمة حقيقية لنوعية الحياة فيها.فالمواطن العراقي العادي لا يعيش بنفس مستوى الحياة التي يعيشها نظيره في بلد متوسط الدخل كتركيا مثلا.
هل بإمكان الزيادة الكبيرة في إنتاج النفط أن تساهم في إيجاد حل؟
ماري-هيلين برينكيل: في الحقيقة أعتقد أن هذا قد يشكل نقمة على العراق. فالعراق يمتلك موارد ضخمة من النفط والغاز، وهذه الموارد تجلب ثروة هائلة. والمشكلة هي أنها لا تصل إلى باقي أركان الاقتصاد على شكل وظائف، وليس أي وظائف، بل وظائف جيدة.ولا يستطيع قطاع النفط توفير وظائف لأكثر من واحد في المائة من العراقيين، وتميل هذه الوظائف إلى كونها في قمة المنحنى الوظيفي. ما يحدث هو أنك تحتاج إلى عمالة ماهرة، وكما ذكرت سلفا فإن نظام التعليم لا يخرج مستوى المهارات الذي تحتاجه صناعة النفط، كما أنك تحتاج إلى زيادة الكوادر العراقية العاملة فيه. وفضلا عن ذلك، فإن الطفرة المذهلة التي يتمتع بها العراق مع ارتفاع أسعار النفط بهذا الشكل، قد حجب عن السلطات إدراك الاحتياجات الحقيقية- وهي متطلبات التنمية في العراق. وهذا يعني بناء المؤسسات والقدرات وتقديم الخدمات الأساسية والحد من الفساد وإرساء إطار عمل للإدارة العامة يضمن توجيه المكاسب التي يتم جنيها من النفط إلى خدمة المواطن العراقي من خلال توفير التعليم والرعاية الصحية الجيدة. وعلى العراق أن يقتنص هذه الفرصة لتنويع اقتصاده والسماح بدخول القطاع الخاص وخلق الوظائف التي تستوعب الأعداد الضخمة من العراقيين الباحثين عن عمل. تلك هي التحديات الرئيسية: تنويع الاقتصاد وتشجيع النمو في القطاعات غير النفطية، ووضع إطار عمل للإدارة السليمة، واتخاذ إجراءات قوية لمكافحة الفساد بما يقضي على ظاهرة الحصانة السائدة في البلاد.باختصار، يحتاج العراق إلى النمو والوظائف الجيدة وحسن الإدارة.
ما هو دور مجموعة البنك الدولي حاليا في العراق؟
ماري-هيلين برينكيل: منذ عام 2004، يشارك البنك الدولي في مرحلة إعادة البناء في العراق بتمويل من صندوق متعدد المانحين. هذا الصندوق سيغلق في ديسمبر/كانون الأول 2013، ولذا فإن البنك يحتاج حاليا إلى وضع استراتيجية لصندوق لمرحلة ما بعد الاعمار.ومن ثم فقد أطلقنا سلسلة من المشاورات التي شملت شريحة كبيرة من المجتمع العراقي تضم كلا من الحكومة والمجتمع المدني، باعتبار أن هذا يشكل مرحلة حيوية في وضع استراتيجية شراكة قطرية شاملة.هذه الشراكة ستحدد علاقة البنك الدولي مع العراق خلال السنوات الأربع القادمة. وتتمثل خطتنا في التركيز على إعادة تنمية العراق، كما يحلو لي أن أكرر.وسيتضمن ذلك دعم قضايا أطول أمدا تشمل بناء المؤسسات، وتشجيع الإدارة الجيدة من خلال تعزيز الإدارة المالية العامة، واقتسام ثمار الرخاء عبر خلق الوظائف والتنويع الاقتصادي، والنمو المستدام، والبنية الأساسية، وتنمية الأقاليم، والحد من الفقر من خلال تحسين شبكات الأمان الاجتماعي، والحماية الاجتماعية وتقديم الخدمات. من الأشياء الملحوظة عن العراق هي أنه ليس هناك الكثير من التمرس على تطبيق القانون.فثمة قوانين كثيرة موجودة بالفعل على الورق- فإذا نظرت ستجد أن هناك، على سبيل المثال، قانونا لمكافحة غسل الأموال، وقانونا لمكافحة تمويل الإرهاب- لكن المشكلة تظل في التطبيق. فمن كان يمثل حكم القانون إبان عهد صدام؟كان الديكتاتور هو القانون.فلم يكن هناك لجوء للقانون، ومن ثم فقد غابت عادة تطبيق القانون.وهناك أجندة كاملة وضخمة عن إعادة بناء النظام القانوني والقضائي، وإعادة طرح الحاجة إلى تطبيق القوانين الموجودة بالفعل وإعادة تطويرها إذا لم تعد صالحة.
ما هي القيود التي فرضها الوضع الأمني على موظفي وعمليات البنك الدولي؟
ماري-هيلين برينكيل: حقيقة حاول البنك جاهدا إيجاد طريقة للعمل في بلد يتفشى فيه العنف. واقتضت الصيغة التي تم تبنيها وجود فرق عمل في عمان وبيروت للإشراف على المشاريع وإدارتها. ورغم القيود التي يفرضها مثل هذا الوضع إلا أنه كان لهذا أثره، بمعنى أننا كنا قادرين على مواصلة الحوار مع الحكومة وإقامة شراكة معها. ولكن في بعض الحالات، أعتقد أن تأثيرنا كان محدودا وذلك ببساطة لأننا لم نكن قادرين على الوصول إلى أرض الواقع بأنفسنا لكي نرى ما يحدث.ومع هذا، تحققت بعض النجاحات، أبرزها ما تم إحرازه في إصلاح برامج التحول الاجتماعي. ويحتاج برنامج "الدعم الشامل" الذي طبق خلال عهد صدام حسين إلى تنقيح وتوجيه أفضل لأن العبء المالي على الدولة كان هائلا، حتى في بلد يمتلك مثل هذه الموارد النفطية الهائلة كالعراق. ونحن نعمل مع الحكومة في محاولة لتحسين توجيه نظام التحويلات الاجتماعية،وما يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به.
كيف تغير الوضع مع إقامتك الدائمة الآن في بغداد؟ ومتى أصبح الوضع آمنا بما فيه الكفاية للسفر خارج المنطقة الخضراء؟
ماري-هيلين برينكيل: لم أقصر أنشطتي أبدا على المنطقة الخضراء. فمنذ اليوم الأول، بدأت في السفر عبر المنطقة الحمراء.عندما وصلت العام الماضي، كنت أقوم يوميا بزيارتين أو ثلاث لأنني كنت أريد أن التقي بكل مسؤول في الحكومة، وهناك الكثير من الوزارات موجودة في المنطقة الحمراء. وقد تحسن الوضع الأمني تدريجيا خلال العام الماضي.وطلبت من الفريق الأمني مؤخرا إجراء تقييم للمخاطر إذا تحركنا أبعد من ذلك.ومن ثم، فقد سافرت حتى الآن إلى البصرة وأم قصر، وزرت محطة كهرباء الحارثة التي أقمنا بها مشروعا، وإربيل ودهوك في إقليم كردستان العراق، والموصل في محافظة نينوى التي ما زالت إحدى أعنف المناطق في العراق، وإلى الأهوار، وجنوبا إلى محافظة المثنى التي تعد منطقة مذهلة. فهي أكبر محافظة عراقية وطبيعتها في الغالب صحراوية وتقع على الحدود مع السعودية وهي في غالبها مجتمع من البدو الرحل الذين يعيشون في الصحراء بطريقة بدائية إلى حد كبير. في الحقيقة فتحت هذه الرحلات عيناي كثيرا.فقد منحتني رؤية متوازنة عن العراق الذي يمتلك خصائص بلد متوسط الدخل في الوقت الذي ترى في المثنى بلدا فقيرا.كان هذا المنظور مهما لتحديد أبعاد دعمنا لمختلف احتياجات العراق على تنوعها. فبوسعنا تقديم المساعدة المطلوبة لبلد متوسط الدخل كنقل المعرفة، والخدمات مقابل رسوم التي يمكن تقديمها لبلد غني بالنفط، وفي الوقت نفسه تقديم المساندة التي تحتاجها منطقة كالمثنى حيث يمكن أن تتعرض الحامل فيها للوفاة أثناء الولادة لأنها تعدم الحصول على الرعاية الصحية أثناء فترة الحمل. ويمكن أن يلعب البنك دورا كبيرا في مساعدة الحكومة على تبني سياسات تخدم احتياجات مناطق شتى في العراق.
ما الذي يمكن أن يقدمه البنك الدولي للعراق على المدى البعيد، وكيف ترين تطور هذه العلاقة ؟
ماري-هيلين برينكيل: نحتاج على المدى البعيد إلى مواصلة تعزيز علاقتنا مع العراق.فالعراقيون يعتبرون البنك شريكا يقدم لهم الرأي السديد والموضوعي.وحينما تحتاج الحكومة العراقية إلى رأي محايد عن أي شيء، فإنها تأتي إلينا. على سبيل المثال، عندما أرادوا إجراء دراسة عن تسعير الغاز، جاءوا إلينا بدلا من اللجوء إلى العديد من شركات النفط العالمية التي تعمل هناك. ويمكننا أن نكون شريكا مفيدا للغاية كمصدر للمعرفة- الموضوعية والمحايدة.كما يمكننا أن نساعد العراق على استعادة مكانته كبلد رائد في منطقة الشرق الأوسط.وقد اتخذ العراق الخطوة الأولى في تعزيز الشفافية في إدارة موارده النفطية. ومن جانبنا ساعدناه على أن يعمل وفقا لمبادرة الشفافية في مجال الصناعات الاستخراجية.كما أنه بوسع البنك أن يساعد العراق على النظر في كل القيود التي تعوق تطور القطاع الخاص حتى يكون لديه مؤشرا أفضل خاصا "بممارسة الأعمال."ويمكن أن يعمل هذا على تحسين صورة البلاد، وفي الوقت ذاته يضمن تنفيذ اللوائح والسياسات على الأرض بما يساعد العراق حقيقة على بلوغ الغاية المتمثلة في تنويع اقتصاده – وهي إحدى الأهداف التي تم إعلامنا بها خلال مشاورات التي أجريناها مع الحكومة حول استراتيجية الشراكة القطرية. فمن خلال الأمثلة والتجارب باستطاعتنا أن نظهر أن لديكم إمكانية الحصول على اقتصاد سوق وفي الوقت نفسه تهتمون بالمواطن الأشد احتياجا الاهتمام اللازم.وينبغي على الدولة أيضا أن تثبت للمواطن أن بإمكانها تقديم الخدمات الجيدة له.واليوم، يفتقر 30 في المائة من العراقيين سبل الحصول على المياه الصالحة للشرب، وهي بمثابة فضيحة في بلد حباه الله بموارد مائية جمة. إدارة موارد المياه، وتوصيل المياه والكهرباء للمواطنين في بلد يشتد فيه قيظ الصيف، وتقديم خدمات التعليم والصحة- كل هذه مجالات مهمة لاستعادة شرعية الدولة في عيون مواطنيها وفي الوقت نفسه لمساعدة العراق على الانتقال إلى المستوى التالي من إعادة تنمية نفسه. إن عملية تحويلذلك إلى واقع يشكل تحديا صعب، إذ يتطلب الكثير من العمل الشاق والمثابرة. والبنك الدولي على استعداد لتقديم دعمه على المدى الطويل لمساعدة العراقيين على إنجاز ذلك.
انضم إلى النقاش