تخيل هنية، فتاة ولدت حديثا في ريف سوهاج، إحدى أفقر محافظات صعيد مصر.لهنية ستة إخوة وهي تعيش مع أمها الأرملة التي تعمل في زراعة الكفاف.والآن تخيل عبد الله، طفل ولد حديثا في هليوبوليس، إحدى الضواحي الراقية في القاهرة.لعبد الله شقيق واحد ويعيش مع والديه، كلاهما تخرَجا من جامعة القاهرة.يعمل والد عبد الله لدى مؤسسة دولية بينما تعمل والدته في الخدمة المدنية المصرية.ثم اسأل نفسك:ماهي فرص حصول كل من هنية وعبد الله على الخدمات الأساسية المهمة لنموهما وتطورهما؟ماهي الصعوبات التي يواجهها أطفال كهنية نتيجة الظروف الخارجة عن إرادتهم كانعدام المساواة بين الجنسين ومكان الميلاد وثروة الأسرة؟ كيف يمكن تقييم أداء مصر فيما يتعلق بضمان حصول جميع أطفالها على الخدمات الأساسية؟
تحاول دراسة أجراها البنك الدولي مؤخرا الإجابة على هذه الأسئلة.تستخدم هذهالدراسة فكرة مؤشر الفرص البشرية HOI لقياس مدى تأثير الظروف على فرص حصول الطفل على الخدمات الأساسية الضرورية لنجاحه في الحياة كالتعليم في توقيته ، والتغذية والمياه النظيفة والرعاية الصحية. ومؤشر الفرص البشرية هو مقياس مركب لمدى تمتع الطفل بالخدمات الأساسية وإلى أي حد تُوزع هذه الخدمات بالتساوي على الفئات السكانية حسب ظروفها. يتدرجالمؤشر من صفر إلى 100 التي تعني وصول الخدمات للجميع. وبما أنه لا يمكن تحميل الأطفال المسؤولية عن الظروف التي يواجهونها يوم مولدهم، فإن كل طفل يستحق الحصول على كافة الخدمات الأساسية المهمة والفرص العادلة في النجاح في الحياة، بمعنى أن مؤشر الفرص البشرية لكل خدمة أساسية في مصر يجب أن يقترب من المائة.
يتضح من الشكل 1 أن مصر حققت مكاسب مهمة في تحسين فرص حصول الأطفال على الخدمات الأساسية في الفترة من عام 2000 إلى 2008. ويبين تحليل التغيرات التي طرأت على مؤشر الفرص البشرية خلال تلك الفترةزيادة في نطاق تغطية الخدمات (أثر النطاق) وتحسّن توزيعها بين الأطفال الذين يعيشون ظروفا مختلفة (الأثر التوزيعي). وتتمتع مصر بسجل جيد في مجال التطعيمات والتحصينات التي تضاهي المعدلات التي حققتها دول مماثلة لها من حيث متوسط الدخل الفردي.كما حققت مكاسب جيدة على مؤشر الفرص البشرية من حيث سهولة الوصول إلى مرافق الرعاية الصحية والموظفين المدربين أثناء الولادة وفحوص ما بعد الولادة. وبالمثل، ارتفع مؤشر الفرص البشرية في مجال الرعاية الصحية قبل الولادة. وأكبر مكسب حققته مصر هو الحصول على الملح اليودي الذي ارتفع على مؤشر الفرص البشرية بمقدار ثلاثة أضعاف. وأخيرا، ارتفع المؤشر بشأن إتمام المرحلة الابتدائية حتى الصف السادس من 60 إلى 79.
ولكن على الرغم من أوجه التحسن السابقة، يفتقر عدد كبير من الأطفال حتى الآن إلى الحصول على العديد من الخدمات الأساسية.فأكثر من حالة من كل خمس حالات ولادة تتم بدون إشراف طبي مع ما يصاحب ذلك من مضاعفات على صحة الأم والطفل. ولا يحظى أغلب الأطفال حديثي الولادة بالذهاب للطبيب بعد الولادة. كما ارتفع سوءالتغذية خلال العقد الأول من الألفية مع توقف نمو ما يقرب من رُبع الأطفال. ورغم تقلّص الفجوة في عدم تكافؤ الفرص بسبب ظروف الميلاد بمقدار النصف، حسب قياسها على مؤشر الاختلاف D-Index، فإنها ما تزال كبيرة(الشكل 2). ويصل مؤشر الاختلاف، الذي يبدأ من صفر في حالة تكافؤ الفرص التام إلى 100 في حالة الانعدام التام لتكافؤ الفرص، إلى 10 أو أكثر فيما يتعلق بالولادة تحت إشراف طبي وفي مرافق الرعاية الصحية، ومعدلات الحصول على الرعاية الصحية قبل الولادة، ومعدلات الالتحاق بالتعليم الثانوي ، وإتمام التعليم حتى الصف التاسع في توقيته.
بينما لعبت ظروف كثيرة عند الولادة دورا في انعدام تكافؤ الفرص، فإنه لا يوجد ما هو أهم من المستوى التعليمي للوالدين والثروة ومحل الميلاد. (الشكل 3). وما تزال حالات الولادة بالاستعانة بالقابلة دون إشراف طبي هي الأكثر شيوعا بين الفئات الأشد فقرا وفي المناطق الريفية، خاصة في محافظات الصعيد والمحافظات الحدودية النائية.والمرأة التي لم تتلق تعليما رسميا هي أكثر عرضة لوضع مولودها دون إشراف طبي بنحو 13 مرة مقارنة بنظيرتها التي أتمت تعليمها الجامعي.ويشرح محل الإقامة معظم عوامل الاختلاف في الحصول على مياه أكثر نظافة وأماناً في البيت. ومستوى تعليم الوالدين، لاسيما الأم، هو العامل الأكثر أهمية في تفسير التباين في معدلات الالتحاق بالتعليم، ويليه ثروة الأسرة. وبينما تراجع انعدام المساواة في حدوث سوء التغذية بشكل عام، فإن نوع الجنس يمثل العامل الأكثر أهمية في انعدام تكافؤ الفرص. فالبنات أكثر تعرضا لتوقف النمو ونقص الوزن من الأولاد.
ما الذي تعنيه هذه النتائج لمصر؟
على الرغم من جوانب التحسّن الجيدة في العقد الأول من الألفية، تظل الخدمات الأساسية موزعة بشكل غير عادل بين الأطفال. ومن الأهمية بمكان توجيه السياسات الاجتماعية والاقتصادية لمصر نحو تحسين سبل حصول الأطفال المحرومين على الخدمات الأساسية. وتُظهر الشواهد أن تكلفة التدخل لتحقيق تكافؤ الفرص في مراحل مبكرة من العمر أقل بكثير من تكلفته في المراحل المتأخرة من العمر.وتشير الدراسة إلى الحاجة إلى التدخل على جبهات عديدة، مع التركيز الفوري على سوء التغذية ودعم تنمية الطفولة المبكرة. ففي مصر، تكاد إجراءات التدخل المعمول بها حاليا لتنمية الطفولة المبكرة تقتصر على مرحلة الروضة. ويمكن أن تشكل إجراءات التدخل الموجه لصالح الفئات الأشد حرمانا إمكانية هائلة لتعزيز حصولها على الخدمات الأساسية بشكل عام. ويمكن معالجة الاختلاف والتفاوت بين المناطق من خلال استثمارات موجهة في المناطق التي تعاني بشكل كبير من تدني وعدم تكافؤ فرص الحصول على الخدمات الأساسية أو الانتفاع منها.
وربما تختلف الظروف عند الولادة كثيرا، إلا أنها لا ينبغي أن تؤدي بالضرورة إلى سوء نمو الأطفال. والواقع أن تكافؤ فرص الحصول على الخدمات الأساسية المهمة سيقطع شوطا طويلا لمنح طفلة مثل هنية فرصة عادلة في التمتع بالصحة والرخاء.
انضم إلى النقاش