شهدت مصر في الأعوام القليلة الماضية تنفيذ سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية الجريئة. فقد قامت الحكومة بنجاح بتحرير سعر صرف الجنيه المصري، وتطبيق ضريبة القيمة المضافة، وقادت سلسلةً من الإصلاحات مثل سن قانون جديد للتراخيص الصناعية، وقانون الاستثمار، وقانون الإفلاس، وتعديلات قانون الشركات، وأنشأت سجلاً للضمانات المنقولة. وبدأت مصر تجني ثمار هذه الإصلاحات: فقد بلغ معدل نمو إجمالي الناتج المحلي الحقيقي 5.3% في السنة المالية 2018، مرتفعاً من 4.2% في السنة المالية 2017، ومن المتوقع أن يقترب من 6% في السنة المالية 2019. وساعد قرار تحرير سعر الصرف على زيادة الصادرات وانتعاش قطاع السياحة. وتحسَّنت إمدادات الكهرباء: إذ انخفضت نسبة الشركات التي تعتبر الكهرباء مُعوِّقاً رئيسياً لعملياتها من 39% في 2013 إلى 18% في 2017.
في السابق، كان يتعين على الشركات التي تريد الحصول على ترخيص أن تحصل على موافقات من 11 جهة، وهي عملية قد تستغرق ما يصل إلى 600 يوم. إذ نص قانون التراخيص الصناعية الجديد على أن هيئة التنمية الصناعية هي الجهة الوحيدة المعنية بتلقي طلبات التراخيص وإصدارها من أجل اختصار الوقت والإجراءات، وهو ما أدَّى إلى زيادة بمقدار 20 ضعفا لعدد التراخيص التي صدرت في أعقاب إجراء هذا الإصلاح. ولا شك أن هذه إنجازات هائلة!
لكن، ما هي الخطوة التالية اللازمة للحفاظ على زخم هذه الإصلاحات؟ كان هذا أحد الموضوعات الرئيسية التي تناولها المؤتمر السنوي التاسع والعشرين يورومني مصر الذي تشرَّفت فيه بإلقاء الكلمة الرئيسية عن التنافسية وتنمية القطاع الخاص. وكما أكَّدت في كلمتي، يجب أن تكون أجندة تحسين الإنتاجية محور التركيز الشامل للجيل التالي من الإصلاحات.
فلماذا التركيز على تحسين الإنتاجية؟ كما قال بول كروغمان عالم الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل "الإنتاجية ليست كل شيء، لكنها على المدى الطويل كل شيء تقريباً." إذ يُعزى إليها نصف الفروق في نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي فيما بين البلدان. وتحسين الإنتاجية هو السبيل للحد من الفقر، وتهيئة فرص عمل أفضل، وخفض أسعار المنتجات الرئيسية، وتعزيز رفاهة الناس.
إن إنتاجية أي اقتصاد تزداد بطريقين: الأول من خلال إحداث تحوُّل هيكلي تنتقل فيه الموارد لاسيما الوظائف من القطاعات منخفضة الإنتاجية إلى القطاعات مرتفعة الإنتاجية. ويساعد تسهيل دخول الشركات وخروجها من السوق على تحقيق ذلك. وقد خاضت الكثير من البلدان المتقدمة والنامية تلك العملية، وتحوَّلت من اقتصادات زراعية إلى اقتصادات صناعية ومُوجَّهة نحو الخدمات عالية القيمة. والطريق الثاني هو من خلال التحسين المستمر لإنتاجية الشركات القائمة في الاقتصاد – وهو عامل رئيسي للنمو المستدام للإنتاجية على الأمد الطويل في أي بلد. [1]
وللحفاظ على زخم الإصلاح الاقتصادي في مصر، يجب أن يصبح القطاع الخاص المصدر الرئيسي لإيجاد المزيد من الوظائف وفرص العمل وتحسين نوعيتها، ويجب أن يكون أيضاً المُحرِّك الرئيسي للنمو. ولكن لا يزال هناك الكثير مما يتعيّن القيام به. فالإحصاءات تُظهِر أنه خلال الخمسة والعشرين عاماً الماضية، بدلاً من انتقال الوظائف من الزراعة الأقل إنتاجية إلى قطاع الصناعات التحويلية الأكثر إنتاجية، انتقلت من قطاع رسمي أكثر إنتاجية إلى قطاع غير رسمي أقل إنتاجية. وكان معدل التشغيل في الصناعات التحويلية بين 20%و25% والاستثمارات الخاصة حوالي 14%، وتقلَّص معدل التشغيل في قطاع الزراعة.
ونتيجةً لذلك، زاد معدل التشغيل في القطاع غير الرسمي مع احتياج الناس لكسب لقمة العيش. وشكل ذلك ضربةً كبيرةً للنمو الكلي للإنتاجية في البلاد، لأن القطاع غير الرسمي أقل إنتاجية من القطاع الرسمي. وكان النمو الكلي لإنتاجية عوامل الإنتاج في مصر غالباً سلبياً (الشكل 1).
لا تزال الإنتاجية على مستوى الشركات متدنية في مصر. وكان معدل إنتاجية الأيدي العاملة في مؤسسات الأعمال الرسمية بمصر من بين أدنى المعدلات بالمقارنة مع أقرانها من البلدان، وانخفض بنسبة 4% في الأعوام القليلة الماضية (الشكل 2).
إن العوامل المُحرِّكة للإنتاجية متعددة. ويرتبط بعضها بما يلي: (أ) بيئة أعمال تشتمل على عناصر المنافسة والتدمير الخلاق؛ (ب) بيئة تنظيمية تتسم بسهولة دخول السوق؛ (ج) تبسيط عمليات مؤسسات الأعمال، وسرعة الخروج من السوق وإعادة الهيكلة؛ (د) تبسيط ورفع كفاءة تقديم الخدمات من الحكومة إلى مؤسسات الأعمال؛ (ه) سهولة الوصول إلى مصادر متعددة للتمويل في مختلف مراحل دورة حياة المشروع؛ (ز) بنية تحتية كافية وخدمات اتصال وربط شبكي جيدة. وتختص عوامل أخرى للإنتاجية بتطوير قدرات الشركات، وتشتمل على المهارات الإدارية، وممارسات مؤسسات الأعمال، وجودة المهارات والأيدي العاملة، وجودة رأس المال وتقنية المعلومات، والابتكار والبحوث والتطوير، وهي عوامل يُسهِّلها في الغالب الاستثمار الأجنبي المباشر والتعلم من خلال التصدير.
لقد تركزت مختلف حلقات الإصلاح في مصر خلال العقود القليلة الماضية على تحسين مختلف جوانب مناخ الأعمال، لكن لم يكن هناك تركيز كبير على المُحرِّكات المحددة التي تتعلق بالشركات. ولا يزال هناك شوط مهم يجب قطعه من أجل سلامة تنفيذ كل الإصلاحات التشريعية التي تم سنها لتحقيق تكافؤ الفرص للشركات لكي تتنافس وتزدهر. ويتيح التزام مصر بعملية الإصلاح مجالاً كبيراً للحاق بالاقتصادات مرتفعة الأداء في عدد من العوامل المُحرِّكة للإنتاجية، سواء من خلال تهيئة بيئة مواتية أو عن طريق مُحرِّكات تختص بالشركات.
إن أجندة تحسين الإنتاجية باتت الآن أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى حتى تتمكَّن مصر بنجاح من الدخول في الثورة الصناعية الرابعة. وستشكل البنية التحتية وخدمات الاتصال والربط الشبكي ، والإجراءات التنظيمية الذكية، والإدارة الحكومية الذكية، والشركات القادرة، والأيدي العاملة الماهرة الركائز الأساسية في رحلة مصر إلى المستقبل.
[1]تركزت مناقشتي على الشركات، لكن يمكن أن تشتمل الكثير من النقاط على المزارع أيضا.
انضم إلى النقاش