في 28 يوليو/تموز، 2022، سجلت درجات الحرارة في بغداد مستويات حارقة، إذ بلغت 51.8 درجة مئوية (125.2 فهرنهايت)، وكان ذلك أشد الأيام حرارةً التي شهدها العراق على الإطلاق. ومن المُرجَّح أن تصبح هذه الظواهر المناخية الحادة أكثر تكرارا في العراق وفي كافة أنحاء منطقة الشرق الأوسط. فدرجات الحرارة في الشرق الأوسط، وهي إحدى المناطق الأكثر تأثراً بتغير المناخ، ترتفع بسرعة تعادل ضعفي ما هي عليه في بقية أنحاء العالم. وتداعيات هذه الأوضاع وخيمة، ومنها النقص الحاد في إمدادات المياه، والانكماش الكبير في رقعة الأراضي الزراعية، والانقطاعات واسعة النطاق في التيار الكهربائي .
يُصوِّر تقرير المناخ والتنمية الخاص بالعراق لعام 2022 الصادر عن البنك الدولي، التفاعلَ غير المُبَشِر بين تغير المناخ والتنمية. ويُسلِّط الضوء على عواقب التقاعس عن العمل، ويُشدِّد على ضرورة تعزيز قدرات القطاع العام، وبنيته التحتية، والاقتصاد، على التكيف. وأبرز مظاهر هذا التفاعل هو شح المياه. ويُحلِّل التقرير تداعيات سيناريو واقعي وأساسي، يتضمَّن انخفاضاً نسبته 20% في الموارد المائية المتاحة، قبل حلول منتصف القرن وما لذلك من تداعيات قد يتعذَّر التغلُّب عليها.
وتنطوي جسامة هذه الآثار على تحديات متعددة الأوجه للهشاشة، بل إنها قد تخلق الظروف التي تؤدي إلى الصراع والعنف. ووفقاً لتقرير التهديد الإيكولوجي لعام 2021 الذي نشره معهد الاقتصاديات والسلام، فإنه غالباً ما يوجد ترابط بين الضعف البيئي والهشاشة، إذ أن 16 من البلدان العشرين الأشد تأثراً بتغير المناخ، هي أيضاً الأكثر تأثراً بمخاطر الهشاشة. وبالتالي، فإن أكثر من نصف البلدان الأشد تأثراً بتغير المناخ تعاني في الوقت الحالي من نزاعات. وفي أوضاع الهشاشة هذه، قد يصبح التدهور البيئي عاملاً مُضاعِفاً للمخاطر، ويؤدي إلى اشتداد النزاعات الحالية، بل قد يصبح بمثابة السبب المباشر لنشوب نزاعات جديدة. وفي منطقة الشرق الأوسط الكبير ، أصبحت المياه ثاني أبرز أسباب الصراع، بعد الوقود الأحفوري والطاقة.
ومهما يكن من أمر، فإن الترابط بين تغير المناخ والهشاشة مسألة مُعقَّدة. فتغير المناخ نادراً ما يُسبِّب الهشاشة أو الصراع بشكل مباشر. بل إن العديد ً من آثاره غير مباشرة، إذ تؤدي إلى تفاقم المخاطر القائمة أو تفتح سبلاً جديدة تفضي إلى الهشاشة. ويُقدِّم تقرير المناخ والتنمية الخاص بالعراق رؤى وأدلة وشواهد جديدة حول السبل التي يُؤثِّر بها تغير المناخ على مخاطر الهشاشة والصراع.
أولاً، يُجبر شح المياه الأسر أو مجتمعات بأسرها على الهجرة، والتخلي عن موارد رزقها، والانتقال إلى مناطق حضرية بحثاً عن فرص العمل والدخل. وتتأثَّر بشدة الأسر التي تعتمد على الزراعة، إذ يؤدي نقص المياه إلى ضعف المحاصيل، ونقص الأمن الغذائي، والتلوث، ومخاطر صحية أخرى. وتعاني بالفعل مناطق مثل جنوب أو غرب نينوي، اليوم، من أزمات إنسانية، ومن النزوح من جراء شح المياه الذي دفع آلاف الأسر إلى التخلي عن سبل كسب رزقها، والهجرة.
وقد يؤدي هذا النزوح القسري إلى زعزعة المجتمعات، وخلق الظروف التي تُسبِّب نشوب النزاعات على الموارد والخدمات الشحيحة. ويمكن ملاحظة الأثر المحتمل لأنماط الهجرة هذه بوضوح في سوريا. فقد أدت حالات الجفاف الشديد إلى موجة هجرة من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية في أواسط العقد الأول من القرن الحالي، وهو ما يربطه كثيرٌ من المراقبين بالاضطرابات المدنية التي أفضت إلى اندلاع الحرب الأهلية في سوريا.
ثانياً، يؤدي تغير المناخ إلى ترسُّخ أوضاع الفقر، وهو الأمر الذي يسهم في الهشاشة. وفي السيناريو المحتمل لانخفاض نسبته 20% في إمدادات المياه، يتوقع تقرير المناخ والتنمية الخاص بالعراق أن تزيد أسعار الإستهلاك أكثر من 13%، فتؤدي إلى زيادةٍ في معدل الفقر بما يتراوح بين 1.6 و4.4 نقطة مئوية. وقد تبدو هذه الأرقام متواضعة على المستوى الوطني، لكن آثارها على المجتمعات المحلية ستكون كبيرة. وبقدر ما تؤدي الاستجابات الحكومية غير الكافية، نحو الصدمات البيئية، إلى تفاقم أوضاع الفقر، والحرمان الناجم عن تغير المناخ، يكون السخط الاجتماعي والحشد المجتمعي من التداعيات المحتملة.
ثالثاً، قد يعجل تغير المناخ، بما له من آثار عميقة على أسواق العمل، حدوث تحوُّل في العقد الاجتماعي في العراق. وكما ورد في تقرير المناخ والتنمية الخاص بالعراق، مازال القطاع الزراعي ثاني أهم مَصدرٍ لفرص العمل والتوظيف للفقراء بعد قطاع الإنشاءات، وذلك على الرغم من تدنِّي دخوله. ومع ذلك، سيتحمَّل القطاع الزراعي وطأة آثار تغير المناخ، إذ أن شح الموارد المائية المتوقع سيُقلِّص الطلب على الأيدي العاملة غير الماهرة بنسبة 11.5% في الأمد المتوسط. وفي غياب التحوُّل في سوق العمل، الذي يُتيح فرصاً اقتصادية خارج القطاع العام، فإن هذه التطورات قد تجعل الكثير من الأسر بدون أي شكل من أشكال الحماية الاجتماعية، أو فرص الترقِّي الاجتماعي إلى أعلى.
تتزامن هذه التطورات مع تحولات في قطاعات أخرى من سوق العمل. ويُشدِّد تقرير المناخ والتنمية الخاص بالعراق على أن التحوُّل العالمي الأوسع بعيداً عن استخدام الوقود الأحفوري، سيؤدي إلى تراجع الطلب على صادرات النفط العراقي في نهاية المطاف. ولأن العائدات النفطية تُمثِّل أكثر من 90% من إيرادات العراق، وتُموِّل القطاع العام واسع النطاق في البلاد، فإن الضغوط العالمية للحد من الانبعاثات الكربونية ستُؤدي في النهاية إلى تقليص الموارد المتاحة للتوظيف في القطاع العام. وتلعب الوظائف الحكومية، دوراً رئيسياً على صعيد العقد الاجتماعي وسوق العمل في العراق. فهي مصدر رئيسي للمحسوبية، وتتيح للعمال من ذوي المهارات العالية فرص التوظيف لهم كما توفّر لأسرهم الحماية الاجتماعية. ورغم أن تقليص حجم القطاع العام إلى مستويات مستدامة، يجب أن يمثل أولوية عاجلة للقيادة السياسية في العراق، إلا أن هذا الأمر سيُشكِّل تحدياً للعلاقة بين المواطنين والدولة، ويجب أن تصاحبه إستراتيجية لتنويع الأنشطة الاقتصادية.
في هذا السياق، يُسلِّط تقرير المناخ والتنمية الخاص بالعراق، على مدى تعقيد وترسُّخ التداخل بين تغير المناخ، وبين الهشاشة، ومدى أهمية التصدي له ومعالجته. ولبلوغ تلك الغاية، يُحدِّد التقرير برنامج استثمارات بقيمة 233 مليار دولار حتى عام 2040 وكذلك مجموعة من التوصيات على مستوى السياسات لإدارة التحوُّل إلى اقتصادٍ منخفض الانبعاثات الكربونية، وقادر على الصمود، واتباع إطار البنك الدولي للتنمية الخضراء القادرة على الصمود والشاملة للجميع.
إن حالة العراق تُجسِّد التحديات التي تواجهها كثيرٌ من البلدان الأخرى المعرضة للتدهور البيئي، وتوضح كيف أن تخفيف حالة الهشاشة في البلاد يستلزم معالجة الآثار الناجمة عن تغير المناخ.
انضم إلى النقاش