عندما كنت في الكلية قبل سنوات عديدة، كنت أذاكر استعداداً لأحد الامتحانات في مادة علم النفس. وعشية الامتحان، راجعت مع أمي أستاذة علم النفس بعض النقاط نظراً لعدم اقتناعي بما ورد في الكتاب الدراسي. في اليوم التالي، سُئلت عن إحدى هذه النقاط في الامتحان وأجبت عليها مستعينة بشرح أمي وليس بالأسلوب الوارد في الكتاب. للأسف، لم أحصل على الدرجة في هذا السؤال لأن أستاذة المادة لا تعترف سوى بالإجابة الواردة في "الكتاب الدراسي" المقرر وليس سواه. ولحسن الحظ، فإن هذا النهج من التعلّم لم يتكرر خلال دراستي الجامعية، حيث يُعد التفكير والمناظرة والنقاش بمثابة تذكرتك للتخرج والانضمام إلى سوق العمل (liberal arts approach).
تذكرت تلك القصة قبل سنوات قليلة، عندما كانت ابنة أختي تواجه صعوبة في تعلم النسب الحسابية، ولا بد أنها كانت حينها في الصف الرابع (من المرحلة الابتدائية). في ذلك الوقت، كان المنهج القديم هو الذي يُدَرَس (وذلك قبل تطبيق الإصلاحات الحالية التي يشهدها قطاع التعليم في مصر) ولم يكن هناك بعد وسائل للتعلّم الرقمي أو قنوات تعليم تلفزيونية. قمت بالبحث في موقع أكاديمية خان (وهي أداة تعلّم على الإنترنت) وعثرت لها على نماذج وألعاب ومسائل. فابتسمتْ بخجل وقالتْ إن هذا كله ممتع، لكنها إذا لم تلتزم بطريقة المعلم في الامتحان فإنها لن تحصل على الدرجة. وبسذاجة قلت لها إنها الآن تعرف كل شيء عن النسب الحسابية ولكن بطريقة طريفة وممتعة. فقالت إنها لا تعبأ في الحقيقة بشأن النسب، لكن كل ما تريده هو أن تجتاز الامتحان.
في التاسع من أكتوبر 2021، يبدأ عام دراسي جديد يذكرنا بترتيب مصر على ما يسمى مؤشر فقر التعلّم: فنحو 70% من الأطفال الذين بلغوا سن العاشرة في مصر لا يستطيعون قراءة أو فهم نص مناسب لأعمارهم (بينما لا تتجاوز هذه النسبة 53% في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل). وبالنسبة لهذا العام، فإن إدخال مناهج دراسية جديدة تتمحور حول الطلاب ويبدأ تطبيقها على تلاميذ الصف الرابع الابتدائي في العام الدراسي 2021/2022 يبعث بعض الأمل في أن النهج المستند إلى التعلّم (مقابل النهج المستند إلى الامتحانات والدرجات) سيكون له تأثير إيجابي على جودة تعليم الأطفال.
إن تحقيق تطلعات التعلّم يتطلب التزام المجتمعات بالشمول والعدل. ولابد أن تزود أنظمة التعليم كل الأطفال بالمهارات والمعرفة التي تعدهم لخوض غمار الحياة واقتحام سوق العمل. في السابق، أدت أنظمة التعليم التي تعتمد على الحفظ والتلقين إلى خلق أجيال من البيروقراطيين في القطاع العام، وثبت أنها لا تتناسب مع متطلبات القطاع الخاص. نحن بحاجة إلى تطوير فهمنا لأفضل السبل لتعليم الأطفال، وأكثر الآليات فعالية في التدريس. وأي شخص حصل على الدورة التدريبية 101 في الإدارة يعلم أن ما لا يمكن قياسه لا يمكن إدارته. لا عجب إذن من الاستعانة بمقاييس شتى في الإصلاحات التي يشهدها قطاع التعليم بمصر حالياً ليسترشد بها واضعو السياسات في تعليم الأطفال بطريقة شاملة ومنهجية.
وقد طورت وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني في مصر حزمة من أدوات القياس، مع التركيز مبدئياً على التعلّم الأساسي في مرحلة رياض الأطفال والسنوات المبكرة من التعليم للاسترشاد بها في فهم كيفية تعلّم الأطفال وتعزيز آليات التدريس. ولتحسين نوعية التعليم في مرحلة رياض الأطفال، تجري وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني تحليلاً لممارسات التدريس في هذه المرحلة، مستعينة بإجراء مقابلات مع المعلمات ومديري المدارس، وأولياء الأمور، علاوة على الملاحظة الحية في الفصول وتقييم الأطفال، حيث تستفيد كل الأدوات من الممارسات العالمية السليمة بعد إقرارها بالتشاور مع الوزارة. وتسترشد وحدات التطوير المهني النموذجي لمُعلمات رياض الأطفال بنتائج هذا الإجراء (ويجري حالياً تجميع البيانات). كما يجري وضع نظام جديد لضمان الجودة يتضمن أدوات لمتابعة التطور الحقيقي لمعايير ضمان الجودة في مرحلة رياض الأطفال وسبل الارتقاء بها مع مرور الوقت. وقد صمم نظام متابعة ضمان الجودة في مرحلة رياض الأطفال بحيث يجري بانتظام، وإن لم تنته وزارة التعليم بعد من إقرار نوبات تكراره بالضبط. وصمم كلاهما بحيث يرتقي بشكل عام بجودة التعليم في مرحلة رياض الأطفال، وبممارسات التدريس فيها وبتجربة الأطفال في التعلّم. كما تخطط وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني لإجراء تقييم على المستوى القومي لقياس ما تعلمه أطفال الصف الرابع على صعيد أساسيات القراءة والكتابة ومهارات الحساب، غير المرتبطة "بالدرجات والتقديرات." كما سيساعد ذلك في فهم كيفية تعلّم الأطفال في المراحل الدراسية المبكرة.
خلال مناقشات جماعية مركَّزة مع الطلاب والمدرسين ومديري المدارس في معرض التواصل مع الأطراف المعنية والمستفيدين من المشروع الذي يموله البنك الدولي والاستماع إلى آرائهم وتصوراتهم بشأن الإصلاحات التي يشهدها قطاع التعليم في مصر حالياً، تذكرت واقعة الجامعة حينما كانت الإجابة المطابقة لما ورد في الكتاب (التعلّم بالحفظ والتلقين) هي الإجابة الوحيدة التي تعترف بها أستاذة المادة. وثمة إدراك للحاجة إلى إصلاح قطاع التعليم في مصر. ومع هذا، فهناك حاجة لبذل المزيد من الجهد في التواصل مع المعنيين من أجل الفهم الأفضل لكيفية الابتعاد عن التعلّم بالحفظ والتلقين ونتائجه، والتطوير المهني المستمر للمدرسين وغيرهم من الإداريين، والمتابعة المتواصلة من أجل إتاحة الفرص لأطفالنا للتعلّم وليس فقط للدراسة. صحيح أن جائحة كورونا كشفت أكثر عن ضعف أنظمة التعليم في مختلف أنحاء العالم، وأكدت على الحاجة الملحة للتحرك إذا كنا حقاً حريصين على أن نوفر لأطفالنا تجربة تعلّم حقيقية، وليس فقط مجرد انتظام محدود بالمدارس لا يؤهلهم لدخول سوق العمل أو للحياة على نطاق أوسع. لا يمكن تحقيق الرؤية المستقبلية للتعلّم إلا بإحداث ثورة في المنظومة التعليمية برمتها بحيث تعطى الأولوية والدعم لتعلّم الطلاب. ومن خلال هذه الجهود الجماعية والعمل الشاق، سيتمكن المصريون من تحقيق آمالهم وتطلعاتهم في أن يحيوا حياة كريمة وأن يسهموا في تنمية بلدهم. مرة أخرى، وعودة إلى دورة الإدارة 101، "فما لا يمكن قياسه لا يمكن إدارته". فلنعمل معاً لوضع أفضل نظام تعليمي لأطفالنا، وأيضاً لدعم كل أنشطة القياس التي تم التخطيط لها للمساعدة في فهم كيفية تعلّم الأطفال، وسبل تعزيز آليات التدريس، والتحرر من فقر التعلّم.
انضم إلى النقاش