بدأ 25 يناير/كانون الثاني من عام 2011 كأي يوم عادي في مصر. كنت قد وصلت قبل ذلك بثلاثة أيام بعد تلقي اتصال بأن أمي مريضة ودخلت المستشفى. وكان كل شيء يمضي على نحوٍ عادي في مصر يومي 23 و 24 يناير وإن كنا جميعا نتوقع خروج مظاهرات يوم 25 يناير. لكن الجميع تقريبا، بما فيهم أجهزة الأمن، كانوا يعتقدون أن هذه المظاهرات لن تفضي إلى شيء.
وفي ذلك اليوم، كان إمام المسجد في منطقتنا يحث الناس على التوجه إلى ميدان التحرير للانضمام إلى المتظاهرين. ولم أذهب يومها للصلاة، وربما بسبب انشغالي بشؤون العائلة لم أدرك خطورة الموقف. ومع انتهاء الصلاة، شاهدت عبر نافذتنا مجموعة صغيرة من المتظاهرين يسيرون على الكورنيش صوب ميدان التحرير. وسرعان ما زادت المجموعة الصغيرة وأصبحت أكبر وأكبر . وبعد مرور موجة بشرية، تخلفت مجموعة صغيرة من المتظاهرين ووقفت أمام عمارات سكنية ضخمة تنادي على سكانها: "انزلوا، انزلوا"، وكان أغلب الناس يقفون بالفعل علىشرفاتهم ثم ما لبثوا أن نزلوا إلى الشارع. وبدأ الرجال والنساء وأسر بأكملها في التدفق إلى الشوارع. وبدأ دوي الشعارات يعلو أكثر فأكثر. وأذكر أن أحد هذه الشعارات كان يقول: "ياجمال قل لأبوك شعب مصر بيكرهوك".
ومع تجمع الناس للمناداة على الآخرين من أجل النزول من منازلهم والانضمام إلى المتظاهرين، زاد الجمع وبدأت السيارات تجد صعوبة في السير عبر شوارع المعادي حيث نعيش. وبينما كانت أعداد الناس تزيد من المئات إلى الآلاف ثم إلى عشرات الآلاف، كان الشيء الوحيد الذي يشغلني هو كيف يمكنني الذهاب إلى المستشفى لرؤية أمي. وكانت ساعات العناية المركزة تمتد فقط من 2 إلى 3 بعد الظهر ثم من 7 إلى 8 مساء، ولم يكن قد بقي على مواعيد الزيارة سوى نصف ساعة. وعلى الفور أدركت أن الوصول إلى المستشفى الآن قد أضحى ضربا من المستحيل. وفكرت أنه من الأفضل الانتظار حتى مواعيد الزيارة المسائية بعد أن يكون كل شيء قد هدأ. وبعد قليل، أدركت أن مغادرة البيت منذ هذا الوقت فصاعدا سيكون أشبه بالمستحيل.
وفي الساعات المتأخرة من مساء الجمعة، تضخم الجمع في ميدان التحرير ليضم أكثر من مليون إنسان. وبالنظر إلى الصور التي التقطت تلك الليلة، ما زلت أشعر بالدهشة لحجم هذه الجماهير وكيف ازدادت هكذا سريعا. ولم يبرحوا مكانهم.وقد خرجت المظاهرات التلقائية بمئات الآلاف أيضا في الأسكندرية والسويس وسرعان ما اندلعت المواجهات العنيفة بين قوات الأمن والمتظاهرين. ورغم عدم وجود متحدث باسم المتظاهرين فإن إرادة الجماهير كانت واضحة. فقد حان الوقت، ليس فقط لرحيل مبارك، بل لرحيل نظامه كله معه. ولم يكن هناك لبس في هذا.
ففي محاولة عقيمة لإعادة الناس إلى منازلهم، وفي القاهرة لإخراجهم من ميدان التحرير، تم إعلان الأحكام العرفية. لكن أحدا في ميدان التحرير لم يتزحزح. ولم يبرح أحد مكانه. في الواقع لم تفعل الأحكام العرفية إلا العكس حيث تدفق المزيد من الناس للانضمام إلى المتظاهرين. وبعد يوم من هذه التطورات، غدت الأمور أشد عنفا. وبدأت قوات الأمن في إطلاق الرصاص على المتظاهرين وسقط أول الشهداء. وأثار هذا غضب الناس وأصبحت الشرطة هدفا لهجمات المتظاهرين حيثما وجدت. وإذا كنت ترتدي زي الشرطة، سواء في أقسام الشرطة أو في الشوارع، كان عليك أن تخشى على حياتك. وخلال أيام، تلاشت الشرطة من كل مكان وعندئذ بدأت الفوضى.
ويقع سجن طرة بالقرب من سكني. ويأوي سجن طرة عتاة المجرمين وقد تمكن كل المسجونين هناك تقريبا من الهروب. وأعقب ذلك خطاب للرئيس مبارك حذر فيه من أن أمن البلاد مرهون ببقائه في السلطة. ويزعم الجميع اليوم أن إطلاق سراح المساجين من طرة كان يرمي لإثبات أن مصر ستكون هكذا بدون أمن. وبمجرد خروجهم من السجن، اقتحم مساجين طرة المنازل ونهبوا مركز كارفور للتسوق الملاصق لبيتي، كما راح أفراد الأمن الذين يرتدون ملابس مدنية ينهبون على ما يبدو بأوامر من محرضين لم يعرفهم أحد حتى الآن.وبعد يوم من إطلاق سجناء طرة، غامرت بالخروج في محاولة لزيارة أمي في المستشفى. ولم يكن المستشفى يبعد أكثر من 15 دقيقة بالسيارة. وعلى بعد خمس دقائق من المستشفى، قررت أنا وأختي العودة، فلم تكن هناك حكمة في مواصلة السير على طريق كورنيش النيل أكثر من هذا. فقد أوقف العسكريون سيارة على الناحية اليمني من سيارتنا كان فيها أربعة رجال بدا أنهم مساجين أعيد القبض عليهم وكان معهم أسلحة من كل حجم وشكل لكنهم لم يقاوموا عند ضبطهم.
فمن هذه المنطقة وما بعدها كان السير بالنهار جنونا وبالليل أكثر جنونا. ولم أتمكن على الإطلاق من العودة إلى المستشفى مرة أخرى. وبمجرد حلول الظلام، بدأ إطلاق النار، طلقات من بنادق آلية. وراح البلطجية الذين يعتلون الدراجات النارية يتنقلون أزواجا من شارع إلى شارع وهم يطلقون النار في الهواء. وفي بعض أجزاء من المعادي حيث نقيم، كان هؤلاء البلطجية يقتحمون البيوت ويسرقون أشياء من السكان تحت تهديد السلاح. وفي الليلة التالية، بدأت اللجان الشعبية تحرس الأحياء. وقمنا من جانبنا بإغلاق شارعنا من الجانبين، وبدأ كل الرجال والصبية يتناوبون الحراسة. وقد تمكنت بعض العائلات في الشارع المجاور من محاصرة إحدى هذه الدراجات النارية وعليها اثنان من أفراد هذه العصابات، لكنهما هددا بإطلاق النار على الرجال والصبية الذين أصبحوا الآن مسلحين أيضا. ومالبث الراكبان أن استسلما. ترى من كانا ؟ لقد كانا من أفراد الشرطة بملابس مدنية ويحملان هويتهما. وتم تقييدهما وتسليمهما إلى العسكريين الذين كانوا يحاولون آنذاك استعادة قدر من النظام.
ولم تشهد الليالي المقبلة أي هدوء حذر؛ فكانت أغلب الليالي التي توالت بعد ذلك تدوي بطلقات الرصاص من البنادق الآلية، ومفعمة بالنهب وحظر التجول، وأناس يموتون وحشود يصابون وذلك على مدار 24 ساعة خلال أيام الأسبوع. لكن ما لبثت المظاهرات أن اتسعت ولم يعد هناك ما يمكن أن يوقف إرادة الشعب.
وبعد عدة أيام، وفي خطاب ألقاه نائبه عمر سليمان، أعلن الرئيس مبارك أخيرا تنحيه عن السلطة بعد ثلاثين عاما في الحكم. وقبل هذا بقليل، كانت أمي قد فارقت الحياة دون أن نتمكن من إقامة جنازة تليق بها بسبب الاضطرابات. وانتهى كل شيء، وكانت تلك هي خاتمة حقبة من الزمن. بالنسبة لأسرتنا، ومع رحيل أمي الحبيبة، كانت خسارة لم نعهدها من قبل، لكن بالنسبة لبلدنا كانت إشراقة فجر جديد. بالنسبة لي شخصيا، وبالنسبة لكل المصريين، لن تعود الأمور أبدا إلى ما كانت عليه.
انضم إلى النقاش