الارتقاء بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: التعليم والمهارات الرقمية يرسمان مشهد الجيل القادم من الوظائف

الصفحة متوفرة باللغة:
الارتقاء بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: التعليم والمهارات الرقمية يرسمان مشهد الجيل القادم من الوظائف

تخيل لو أنك حصلت على الوظيفة التي طالما حلمت بها في مجال الهندسة في واحدة من أفضل شركات التكنولوجيا في سيليكون فالي، وأنت في بيتك في الرياض أو القاهرة أو بيروت. لقد أصبح هذا الحلم الآن في متناول الآلاف في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بشرط امتلاكهم المهارات المناسبة.

الموجة الرقمية حاضرة بقوة في المنطقة

منذ تفشي جائحة كورونا، شهدت المنطقة طفرة في التحول الرقمي. وكانت تونس ومصر والمملكة العربية السعودية في طليعة البلدان التي تبنت التحول الرقمي وتبسيط إجراءات تقديم الخدمات. فعلى سبيل المثال، توفر منصة أبشر في المملكة العربية السعودية أكثر من 300 خدمة حكومية إلكترونية (منها بطاقات الهوية الرقمية وجوازات السفر والتوثيق) لنحو 24 مليون مستخدم. ويستفيد برنامج دعم توظيف الشباب في مصر من تطورات الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية في تزويد الشباب بخدمات الإرشاد المهني والتوظيف.

ويُظهر تقرير رئيسي أصدره البنك الدولي مؤخراً تحت عنوان: "تبني التغيير وتحديد ملامحه – التنمية البشرية من أجل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مرحلة انتقالية" أن تأثر المنطقة بالتغيرات الناتجة عن تطورات الذكاء الاصطناعي يفوق العديد من المناطق الأخرى، بما في ذلك أمريكا اللاتينية وجنوب آسيا، وحتى بعض أجزاء أوروبا وآسيا الوسطى. ويرجع ذلك إلى مجموعة من العوامل منها، وجود شريحة من الشباب البارع في التعامل مع التطورات التكنولوجية، والإستراتيجيات الرقمية الوطنية الطموحة، والاستثمارات الكبيرة في البنية التحتية العامة الرقمية، والتعليم، وشمول الجميع. وفي بعض الاقتصادات الأكثر ديناميكية في المنطقة، مثل الإمارات العربية المتحدة، تم تصنيف ما يصل إلى 33% من المهن على أنها معرضة بشدة لمخاطر الذكاء الاصطناعي، وهي من أعلى المعدلات على مستوى العالم. وفي المملكة العربية السعودية، تشكل النساء 51% من سوق العمل التكنولوجي.

المهارات التي يبحث عنها أرباب العمل في المنطقة ولا يجدونها

النقطة الأساسية هنا هي أن هذه الموجة الرقمية تتطلب مجموعة جديدة من المهارات، فأرباب العمل في جميع أنحاء المنطقة في أمس الحاجة إلى المواهب الرقمية. وتسلط دراسة حديثة بعنوان "المهارات الخضراء والرقمية: مسار إلى الوظائف في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" الضوء على هذه الحاجة الملحة، حيث كشفت أنه بين عامي 2022 و2023، تطلبت واحدة تقريباً من كل ثلاث وظائف تم الإعلان عنها عبر الإنترنت في المنطقة مهارةً رقمية واحدة على الأقل.

ولا يقتصر الأمر على شركات التكنولوجيا فحسب، حيث أصبحت المهارات الرقمية الآن أساسية في مجالات التمويل، وتجارة التجزئة، والصناعات التحويلية، والرعاية الصحية، وحتى الزراعة. ويشهد الطلب على مهارات الترميز والبرمجة وعلوم الكمبيوتر ارتفاعاً كبيراً، لكن الحاجة أكثر عمقاً، إذ تشير الدراسة إلى أن نحو ربع الوظائف الرقمية (23%) في المنطقة تتطلب الآن مهارات محددة في مجال الذكاء الاصطناعي.

وفي دراسة أخرى خاصة بالمنطقة حول المهارات الرقمية المطلوبة للوظائف، أشار تحليل الوظائف الشاغرة عبر الإنترنت من خلال منصات مثل "لايت كاست" و"لينكد إن" إلى أن نسبة توظيف المواهب في مجال الذكاء الاصطناعي في المملكة العربية السعودية تقترب من 29% مقارنةً بالتوظيف الإجمالي في عام 2024. ولا ينبغي أن يكون هذا مفاجئاً، نظراً لأن المملكة نجحت في استقطاب أكثر من 40 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة من الشركات التي يطلق عليها شركات الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية الكبرى (جوجل، وأمازون لخدمات الإنترنت، ومايكروسوفت، وإنفيديا، وهواوي، وأوراكل، وغيرهم) في نفس العام.

فجوة المهارات الرقمية: مصدر قلق متزايد

لسوء الحظ، يفوق الطلب على المهارات الرقمية ومهارات الذكاء الاصطناعي العرضَ بكثير. وتبين الاستقصاءات إلى أن نحو 70% من الرؤساء التنفيذيين في المنطقة يعتبرون نقص المهارات الرقمية الأساسية تهديداً كبيراً لأنشطة الأعمال. وفي الوقت نفسه، لم تشهد المنطقة أي تغيير يُذكر في خدمات التعليم والتدريب لتلبية الطلب السريع التطور على المهارات الرقمية. على سبيل المثال، في مسح استقصائي أُجري مؤخراً للشباب في مصر (17-34 عاماً)، قال 97% منهم أن الإلمام بالتكنولوجيا الرقمية لا يقل أهمية عن مهارات القراءة والكتابة التقليدية (قيد الإصدار). وفي الوقت نفسه، 63% منهم قالوا أن المهارات الرقمية لا تتوفر إلا لمن يحملون درجة الماجستير. وفي المغرب، تهدف الإستراتيجية الرقمية الوطنية الجديدة إلى زيادة عدد الأشخاص ذوي المهارات الرقمية بصورة كبيرة كل عام، وتستهدف تنمية 50 ألف موهبة سنوياً بحلول عام 2026، و100 ألف موهبة بحلول عام 2030. وتم طرح هذه المبادرة بهدف دعم جهود التحول الرقمي التي تبذلها الحكومة ومركز التميز الإقليمي المُزمع إنشاؤه في مجال الذكاء الاصطناعي.

سد فجوة المهارات الرقمية: خارطة طريق للعمل

في ضوء كل ما سبق، ما الذي يمكن أن تفعله بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لسد فجوة المهارات الرقمية؟

  1. جعل المهارات الرقمية أساسية: يجب النظر إلى المهارات الرقمية على أنها أساسية وليست اختيارية. ومن خلال إدخال المهارات الرقمية في مرحلة مبكرة من الحياة (الصفوف الابتدائية أو الثانوية)، ستعمل أنظمة التعليم على تزويد شريحة أكبر بكثير من الطلاب بالكفاءة في المهارات الرقمية والقدرة على التكيف معها.
  2. تسهيل إنشاء منظومة متكاملة للمهارات: ينبغي للحكومات أن تفكر في تسهيل إنشاء منظومة متكاملة للمهارات الرقمية، بدلاً من اقتصار دورها على توفير خدمات التدريب.
  3. توفير حلول سريعة لتنمية المهارات: في شكل دوراتٍ قصيرة المدة، ومعسكرات التدريب، وبرامج تعليم إلكتروني وشهادات اعتماد تراكمية للمهارات القابلة للتخصيص والمهارات التي يمكن توفيرها "حسب الحاجة".
  4. فهم الفجوات في العرض والطلب في مجال المهارات الرقمية بشكل أفضل. ومن أجل دراسة استخدام التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في توفير الوظائف في المنطقة، ستحدد دراسة تصدر قريباً تحت عنوان "تقييم المهارات الرقمية المطلوبة للوظائف في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" جانبي العرض والطلب على المهارات الرقمية، مما يساعد بلدان المنطقة على فهم ما يريده أرباب العمل وما يتعلمه الطلاب. وتبرز الدراسة أيضاً أهمية تحديد المهارات المطلوبة، وتنظيم معسكرات التدريب، والاستفادة من الشراكات (مثل AWS Educate و Code.org) لتطوير المناهج الدراسية وربط الطلاب بوظائف التكنولوجيا التي يشتد الطلب عليها.

مستقبل العمل أصبح رقمياً - وقد حان وقته الآن

مع تنوع اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وابتكارها، تبرز المهارات الرقمية ومهارات الذكاء الاصطناعي كأداة جديدة من أدوات التوظيف. ولا تَعِد هذه المهارات بفرص عمل أفضل فحسب، بل تُبشر أيضاً بإمكانات إطلاق العنان للنمو الاقتصادي والقدرة على الصمود في منطقة تشهد تحولاً جذرياً. ليس هذا فحسب، بل إن المنطقة لديها فرصة حقيقية للريادة في مجال التحول الرقمي/الذكاء الاصطناعي الداعم للبشر، بدلاً من التكنولوجيا التي تحل محل البشر. ولهذا الغرض، ستكون المهارات الرقمية بالغة الأهمية. وبالنسبة للباحثين عن عمل والمستثمرين وواضعي السياسات، فالرسالة واضحة: مستقبل العمل في المنطقة أصبح رقمياً، وقد حان الوقت للاستثمار في المهارات الرقمية الآن.


سامية ملحم

كبيرة الخبراء المتخصصين في السياسات العامة بمكتب نائب رئيس البنك الدولي لشؤون التنمية الرقمية

مشاعل أبو سالم

محللة في مجال التنمية البشرية، البنك الدولي

انضم إلى النقاش

محتوى هذا الحقل سيظل خاصاً بك ولن يتم عرضه للعامة
الأحرف المتبقية: 1000