نشر في أصوات عربية

النظر من خلال ثقب في الجدار: رؤية لاقتصاد فلسطيني مستقبلي

الصفحة متوفرة باللغة:

Image

كلما اجتزت بالسيارة الجدار الذي يحيط بمدينة رام الله الفلسطينية، أذهلني عدد المباني الشاهقة تحت الإنشاء، والسيارات الفارهة العديدة وأحدث المقاهي. ويبدو للناظر وكأن رام الله مدينة كبرى تنمو بسرعة لبلد مزدهر متوسط الدخل.غير أنني أعلم أن هذا وهم وسراب. فهو يخفي الفقر المدقع الذي يعصف بقطاع غزة، وفي المناطق الريفية للضفة الغربية، وفي مخيمات اللاجئين المتناثرة.وما أن يعبر المرء حاجز التفتيش إلى غزة – وهو أمر لا يتاح عمله إلا لقليل من الناس - حتى تختفي السيارات الباهظة الثمن، لتحل محلها العربات التي تجرها الحمير وأكوام القمامة وبؤس سكان تحت الحصار.

وخلال عملي مع السلطة الفلسطينية، أثار إعجابي إخلاص موظفيها وما حققوه من تقدم في بناء المؤسسات لدولة في المستقبل. ولكن لا يمكن لدولة أن تنجح بدون اقتصاد يقوده القطاع الخاص ويتمتع بمقومات الاستدامة، وهو ما لا يمكن تحقيقه في ظل القيود الثقيلة التي تفرضها الحكومة الإسرائيلية على الحركة والحصول على الموارد مثل الأرض والمياه والطيف الكهرومغناطيسي اللازم للاتصالات السلكية واللاسلكية الحديثة.

Imageوالنمو الذي نشهده في رام الله وأماكن أخرى في الضفة الغربية يحركه أساسا الإنفاق الحكومي الذي يموله المانحون والتحويلات النقدية التي تساند الاستهلاك.ومع أنه كانت هناك استثمارات كبيرة من جانب رجال أعمال محليين في قطاعات العقارات والتجارة، فإنه لم تبد مؤشرات تذكر على استثمارات في الصناعات التحويلية أو الزراعة أو الأنشطة التجارية الأخرى.والمباني الجديدة هي عقارات تجارية ومساكن وليست مصانع أو محطات كهرباء.ومع أنه من الواضح أن القطاع الخاص لن يكون بمقدوره الانطلاق في ظل المستوى الحالي من القيود، فإن هناك الكثير الذي يمكن للسلطة الفلسطينية عمله لتحسين الوضع الحالي وتمهيد الطريق للمضي قدما حينما تؤدي اتفاقية سلام إلى قيام دولة مستقلة.

تُشكل الضفة الغربية وقطاع غزة اقتصادا منفتحا صغيرا، وتتمثل أفضل فرصة له للازدهار والنمو في الاندماج في السوق العالمية وزيادة التجارة.انظر إلى موقعه، فهو قريب من أوروبا وله منفذ على البحر المتوسط،ولكنه أيضا بوابة إلى العالم العربي، غربا إلى مصر وجنوبا وشرقا إلى منطقة الخليج العربية. وللاستفادة من هذا الموقع الجغرافي الإستراتيجي، يجب أن يبدأ العمل الآن، حتى قبل أن يسيطر على حدوده، لبناء مرافق بنيته التحتية للتجارة.ولكن الاستفادة إلى أقصى حد من هذه البنية التحتية في المستقبل يتطلب أن يصبح القطاع الخاص الفلسطيني أكثر قدرة على المنافسة ومهيأ لاستغلال الفرص التجارية.

Image

ولاجتذاب الاستثمارات الواسعة المطلوبة اللازمة لزيادة الإنتاجية وتحسين القدرة على المنافسة، يجب تحسين بيئة الأعمال. ولا يكفي أن توجد بيئة أعمال جيدة.وللتغلب على مفاهيم المخاطر التي أوجدتها سنوات من الصراع، تعرف السلطة الفلسطينية أنها يجب أن تكون من أفضل بيئات الأعمال في العالم.وهي مهمة شاقة في ظل الظروف الحالية، لكنها هدف تحاول السلطة الفلسطينية تحقيقه. 

 

عملت في مكتب البنك الدولي هنا في القدس منذ سنوات طويلة، وإن سألتني ما هي أفضل الإمكانيات، ما هي أفضل الموارد المتاحة، فإنها الموارد البشرية: فهم أناس مثيرون للإعجاب ويتمتعون بمستويات تعليمية عالية وبروح العمل الحر.ويتميز السكان الفلسطينيون بارتفاع مستوى تحصيلهم التعليمي، ولكن لسوء الحظ لا يتوفر إلا القليل من فرص العمل لاستيعاب العدد الكبير من الخريجين الجدد كل عام. ويرجع هذا في الأغلب – إلى ركود الاقتصاد. ولكن مما يثير القلق أيضا أن كثيرا من الخريجين يفتقرون إلى المهارات التي يحتاج إليها فعلا القطاع الخاص.وعليه، فإن زيادة القدرة على المنافسة وزيادة الصادرات من سلع ذات قيمة مضافة أعلى يتطلب إجراء تحسينات كبيرة في نوعية التعليم.

 

Image

ولن يتسنى توفير الوظائف التي يحتاج إليها السكان الذين تتزايد أعداهم بسرعة إلا من خلال قطاع خاص تتوفر له مقومات الاستدامة.ولن يتسنى تحقيق العائدات اللازمة لتوفير الخدمات الأساسية إلا من خلال قطاع خاص يتمتع بمقومات الاستدامة.وعلى الرغم من الأوضاع الراهنة، فإن القطاع الخاص الفلسطيني مستمر في أداء دوره، وإن كانت قيود شديدة تحد من نموه.ولكن حتى يمكن التوصل إلى حل سياسي وترفع تلك القيود، فإن المباني الشاهقة في رام الله لن تكون أكثر من رؤية لما يمكن تحقيقه في شتَّى أرجاء الضفة الغربية وقطاع غزة.ولكن هل هناك إمكانية لتحقيق ذلك.أتمنى أن أرجع مع ابني ليرى ذلك يوما.


بقلم

جون ناصر

الخبير الاقتصادي القطري للضفة الغربية وغزة

انضم إلى النقاش

محتوى هذا الحقل سيظل خاصاً بك ولن يتم عرضه للعامة
الأحرف المتبقية: 1000