نشر في أصوات عربية

العدو في الداخل: مكافحة البلهارسيا في اليمن

الصفحة متوفرة باللغة:
Imageيحكي فيلم الرعب Alien قصة كائن غريب يغزو جسم الإنسان ويختبئ فيه، ويتسبب في نهاية المطاف في حدوث دمار هائل. ويشبه هذا القصة الحقيقية للدودة الطفيلية التي تغزو في دقائق معدودة جسم الإنسان مستخدمة أذنابها المتشعبة في اختراق الجلد. وحينما تصبح داخل الجسم، تسير مع الدورة الدموية وتتغذى على مغذياته.  
تستطيع الديدان التي تنقل الطفيليات المثقوبة المعروفة أيضا باسم البلهارسيا وتؤدي إلى الإصابة بالمرض البقاء داخل جسم الإنسان دون أن يكتشفها أحد مدة تصل إلى 15 عاما. وتستطيع دودة واحدة أن تضع آلاف البويضات في اليوم، ويلتصق بعضها بجدران أنسجة الجسم ويمزق الأعضاء الداخلية ويتلفها. وقد تكون آثار ذلك على جسم الإنسان مُدمِّرة

وتنتقل ديدان البلهارسيا عبر المياه العذبة (لا المالحة) المُلوَّثة، وعادة ما يصاب بها الإنسان خلال أعماله المنزلية مثل غسل الملابس، ورعاية الأرض وتربية الماشية. وبعد أن تصل البويضات إلى الماء وتفقس، تنتقل إلى القواقع الناقلة. وحينما تخرج السركاريا (الطور المعدي للديدان) من القواقع، يمكن أن تبدأ دورة إصابة جديدة بالمرض.
والأطفال في سن الدراسة على وجه الخصوص مُعرّضون للإصابة بالبلهارسيا لأنهم يلعبون في المياه المُلوَّثة. وهم يعانون أيضا من أشد الآثار الجانبية مثل فقر الدم والتقزُّم والإعاقة الذهنية، وفي بعض الأحيان، الوفاة المبكرة.

إن هذا ليس بالمرض الجديد، فقد اكتشفت آثار المراحل المتأخرة للإصابة به في مومياوات عمرها 3000 عام في مصر، وهو يؤدي حتى وقتنا هذا إلى وفاة أكثر من 200 ألف شخص سنويا على مستوى العالم. وفي عام 2012، تم علاج أكثر من 24 مليون شخص من البلهارسيا، وحصل قرابة 250 مليونا آخرين على علاج وقائي. وتنتشر الطفيليات المسببة للمرض في المناطق المدارية وشبه المدارية في أفريقيا (حيث يعيش 90 في المائة من المصابين بالمرض)، وكذلك الشرق الأوسط وآسيا وأمريكا الجنوبية ومنطقة البحر الكاريبي. ومع أن البلهارسيا تأتي في المرتبة الثانية بعد الملاريا من حيث انتشارها وآثارها، فإنها لا تزال غير معروفة نسبيا. ولهذا السبب، ستكون أحد الأمراض التي يتم تسليط الضوء عليها خلال اليوم العالمي للصحة هذا العام، وهو 7 أبريل/نيسان، والذي يتركز على الأمراض المنقولة.
 
  مرض الفقر
 
تُسمَّى البلهارسيا أحيانا "مرض الفقر" لأنها تُؤثِّر بشكل أساسي على المجتمعات الفقيرة والريفية التي تفتقر إلى إمكانيات الحصول على المياه المأمونة، وتعاني نقص خدمات الصرف الصحي، وعدم كفاية إمكانيات الحصول على برامج الصحة العامة وخدمات الرعاية الصحية. وفي المجتمعات المحلية المنكوبة بالفعل بالفقر، مثل معظم سكان اليمن البالغ عددهم نحو 24 مليون نسمة، قد يؤدي المرض إلى إضعاف مقاومة الجسم للأمراض المعدية الأخرى، ويُقلِّل في الوقت نفسه من مُعدَّلات الإنتاجية ونمو القدرات البدنية والإدراكية للطفل في الأمد الطويل.
 
وفي اليمن، كما هو الحال في كثير من البلدان الأخرى في الشرق الأوسط، تتحمَّل الأسر معظم تكاليف رعايتها الصحية. وحتى في حالة الإصابة بالمرض، تضطر الأسر الفقير إلى الاختيار الصعب بين الإنفاق على الرعاية الصحية وأشياء أخرى أساسية مثل الغذاء. وفي اليمن يُضاف إلى ذلك عامل آخر هو الافتقار إلى مرافق كافية للرعاية الصحية  Imageوأعداد كافية من موظفي الرعاية الصحية للسكان الذين يغلب عليهم أهالي الريف.
وقد استجاب البنك الدولي بتمويل مشروعات للرعاية الصحية على المستوى الوطني للمجتمعات الفقيرة والريفية تُشكِّل جزءا لا يتجزأ من إستراتيجية البنك الدولي للرعاية الصحية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي اعتمدت في الآونة الأخيرة بعنوان  (الإنصاف والمساءلة: الانخراط في نظم الرعاية الصحية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا): أمراض الفقراء التي يجب معالجتها والاحتياجات والحقوق الصحية للفقراء التي يجب أن تلقى استجابة تتسم بالإنصاف.
                                               
حان الوقت لتغيير الأوضاع

وصف المركز الأمريكي لمراقبة الأمراض والوقاية منها البلهارسيا بأنها "أكثر أمراض المناطق المدارية المهملة فتكا في العالم". ولم يعد الحال كذلك في اليمن. إذ تجرى جهود لمعالجته وتقلّصت بشدة معدلات انتشار المرض منذ قام البنك الدولي بتوسيع نطاق تطبيق برنامجه الوطني لمكافحة المرض في البلاد.
 كانت البلهارسيا أحد الأسباب الرئيسية للوفيات بعد الملاريا في اليمن. إذ يُقدَّر عدد حالات الإصابة به بثلاثة ملايين. وخلال الأعوام الثلاثة الماضية، قامت السلطات الصحية اليمنية بمساندة مالية وفنية من البنك الدولي [1] ومنظمة الصحية العالمية ومبادرة مكافحة البلهارسيا بتوزيع 45.5 مليون جرعة من العقار برازيكوانتيل [2] على أطفال معظمهم في سن الدراسة.
 وسيجري توسيع نطاق استخدام هذا العلاج ليشمل ملايين آخرين. وأُجريت أيضا حملات توعية في إطار هذه الجهود. وانخفضت معدلات الإصابة أكثر من النصف نتيجة لهذه الجهود [3] وبناء على هذا، اتسع نطاق معالجة الأمراض المتصلة بالفقر ليشكل معالجة الأمراض التي تنتقل عن طريق التربة وكذلك الرمد الحبيبي.

التعامل مع وباء قديم: تعبئة المجتمعات المحلية والعقاقير الحديثة
                            
من الضروري لفهم المغزى الكامل للنجاح في مكافحة هذا المرض أن ندرك السياق الذي تم فيه. فاليمن يشهد حالة دائمة تقريبا من الفوضى على الصعيدين الاقتصادي والسكاني ومن حيث الأمن الداخلي. وفي الوقت نفسه، فإنه يتأثَّر بالتوترات الإقليمية. ومعدل الأمية يبلغ نحو 70 في المائة للنساء، أي تقريبا ضعفي مثيله للرجال. والتضاريس الجبلية الوعرة لليمن تجعل جهود التواصل صعبة شاقة. وعلى الرغم من هذا، فإن الحكومة وغيرها من أصحاب المصلحة المباشرة والمجتمعات المحلية يعزون نجاحهم إلى عدة عوامل، أبرزها تعبئة المجتمعات المحلية. فهذه المجتمعات تشارك في عمليات التخطيط الجزئي لحملات التوعية، وتعزيز إحساس المجتمعات المحلية بالمسؤولية، وتصميم جهود التواصل الملائمة للأوضاع السائدة، وكذلك توزيع الأدوية والمعلومات وإنشاء مراكز الرعاية الصحية. وساهم علماء الدين وقادة المجتمع المحلي والمدرسون والقائمون على تقديم الرعاية الصحية جميعا في نشر المعرفة بالمرض والعلاج المتاح له. وأذيعت رسائل لهذه الغاية على شاشات التلفزيون وعبر أثير الإذاعة قبل الحملة وأثناءها.
 
Imageوعملت فرق صحية متنقلة عملا دؤوبا للوصول إلى هذه التجمعات السكانية، وساعدت عاملات في مجال الرعاية الصحية ومتطوعون في تشجيع الفتيات والنساء على التردد على المراكز الصحية. ومن خلال التعبئة المجتمعية الواسعة التي شارك فيها 30 ألفا من الأفراد المؤثرين في المجتمع المحلي والعاملين في مجال الرعاية الصحية، تم معالجة عدد قياسي بلغ 9.6 مليون شخص من البلهارسيا والأمراض التي تنتقل عبر التربة في حملتين منفصلتين للصحة العامة استمر كل منهما أربعة أيام. ويأتي هذه بالمقارنة مع 1.9 مليون يمني تم علاجهم خلال عام 2012 كله. ونقل القائمون على الحملة الصحية في اليمن المعلومات عبر مُكبِّرات الصوت في الأسواق ومواقف الحافلات. وعرضت ملصقات ولافتات المعلومات الأساسية وأين يمكن الحصول على العلاج. وساهم الالتزام والتعاون بين منظمة الصحة العالمية ومبادرة مكافحة البلهارسيا والحكومة اليمنية والبنك الدولي [4] في تحقيق النجاح العام للحملة.
 
العامل النهائي المطلوب للقضاء على المرض: التنمية البشرية الواسعة

مع أن اليمن خطا خطوات واسعة نحو تقليص معدلات الإصابة بالبلهارسيا، فإنه يجب مواصلة الجهود بعد انقضاء أجل هذا المشروع الوطني. ونظرا لأنه لا يوجد مصل لمنع تجدد الإصابة بالمرض، فإن إستراتيجية مكافحة البلهارسيا يجب أن تتضمَّن بين عناصرها توزيع الأدوية على نطاق واسع مع حملات التوعية العامة. ويجب على الحكومة أيضا أن تبني على نجاحها في التعبئة المجتمعية وتقديم خدمات الرعاية الصحية المتنقلة من أجل الوصول إلى السكان في المناطق الريفية النائية، وهو أسلوب يمكن التوسع في تطبيقه والبناء عليه في إطار إستراتيجية وطنية للرعاية الصحية. ويجب عليها أيضا تحفيز العاملين في مجال الصحة والمجتمعات المحلية للاستمرار في مكافحة المرض.
ويجب أيضا تغيير السلوكيات، وكذلك اتخاذ إجراءات لتقليل الاختلاط بالمياه الملوثة لأسباب مهنية أو في الأنشطة الترويحية. ويجب تحسين إمكانية الحصول على المياه المأمونة، وكذلك خدمات الصرف الصحي. وهناك تحد أكثر صعوبة هو إيجاد سبل مأمونة للقضاء على القواقع التي تحافظ على دورة حياة الديدان المسببة للمرض. [5]



 

علاء حامد: كبير خبراء الصحة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالبنك الدولي. وهو طبيب يحمل شهادة الدكتوراه في الصحة العامة، وقد انضم للعمل في البنك عام 1998 ويدير عددا من المشروعات الصحية في مصر واليمن.
 
 
[1] انطلق مشروع مكافحة البلهارسيا في اليمن عام 2010 وهو يلقى مساندة بمنحة قيمتها 25 مليون دولار من البنك الدولي، ومن المقرر أن يكتمل بحلول عام 2016.
[2] يمكن معالجة حالة الإصابة بشكل فعال إلى حد ما بالعقار "برازيكوانتيل".
[3] تظهر دراسة مستقلة لتقييم الآثار أجريت في مواقع الرصد المختارة أن معدلات الإصابة بالعدوى التي تم تجميعها من 2000 فرد هبطت أكثر من النصف منذ بدء المشروع من 20 في المائة عند مستوى خط الأساس إلى 8 في المائة، وأن عدد الحالات التي تعتبر مستودعا للطفيليات المسببة للمرض انخفض إلى أقل من 4 في المائة.
[4] عمل البنك الدولي من خلال نقل مسؤوليات التنفيذ إلى الحكومة وهو ما ساعد على بناء القدرات ووضع الإطار المؤسسي لنموذج العمل على كل المستويات.
[5] الكيماويات التي تستخدم في القضاء على القواقع في مصادر المياه العذبة قد تضر بالأنواع الأخرى من الحيوانات في المياه، وإذا لم يكن العلاج متواصلا، فإن القواقع قد تعود إلى تلك المواقع فيما بعد. وتحاول بعض البلدان نشر زراعة الجمبري في المياه المصابة بالقواقع لتقليل عدد القواقع وهو إجراء مأمون. ولم يتم بعد تقييم نواتج هذه التجربة ونتائجها.

بقلم

انضم إلى النقاش

محتوى هذا الحقل سيظل خاصاً بك ولن يتم عرضه للعامة
الأحرف المتبقية: 1000