لليمن مكانة خاصة في مسيرتي المهنية، فبعد قرابة عقدين من الزمن، حظيت بفرصة إعادة اكتشاف مجتمعات لا زالت قادرة على الصمود. فرغم سنوات المعاناة، ما زالت هذه المجتمعات تسعى لتحقيق مستقبل أفضل. لقد تغير اليمن الذي عدتُ إليه، لكن روح شعبه وعزيمته واعتزازه بنفسه وقدرته على التكيف مع الظروف بأدنى قدر من الموارد ما زالت ثابتة ولم تتغير.
كانت زيارتي الأولى إلى اليمن في مارس/آذار 2002، وهي أول مهمة لي في البنك الدولي، وكانت تهدف إلى إعداد مشروع تنمية وتطوير مدن الموانئ. في تلك الأيام، كان السفر ميسوراً، وكانت الرحلات الجوية إلى صنعاء تصل بعد منتصف الليل، وكنت أستوقف سيارة أجرة قديمة من طراز بيجو 504 خارج المطار. وداخل المدينة، كنا نتجول في حافلات صغيرة مشتركة جنباً إلى جنب مع اليمنيين العاديين، مما أتاح لنا إطلالة على تفاصيل الحياة اليومية.
لقد عقدنا العزم على مساعدة عدن على استعادة مكانتها التاريخية—ففي خمسينيات القرن الماضي، كانت ثاني أكثر الموانئ ازدحاماً في العالم بعد نيويورك. وكان هدفنا هو استعادة قدرتها التنافسية من خلال الاستثمار في التنمية الاقتصادية المحلية. وكان أبرز نجاح هو التحول الكبير الذي شهده سوق السمك في صيرة. ففي إطار شراكة مع الجمعية التعاونية للصيادين، قمنا بتصميم سوق حديث، وفي الوقت نفسه حافظنا على الطابع المجتمعي والمحلي للسوق، فضلاً عن تعزيز مسؤولية المجتمع المحلي عنه من خلال مدونة سلوك لا تزال تُعرض بفخر على جدرانه. وبعد مرور عقدين من الزمان، لا يزال هذا السوق مفعم بالحيوية وقادر على تحقيق الاستدامة من خلال الموارد الذاتية، وهذا دليل على أن التنمية التي تقودها المجتمعات المحلية تستمر وتدوم.
في تعز، تعرض سكان المدينة، الذين يبلغ عددهم 600 ألف نسمة، لسيول جارفة ناجمة عن قصور في شبكات الصرف الصحي والأمطار الغزيرة، مما أدى إلى سقوط ضحايا وتدمير العديد من المباني. وقد أقام المهمشون—وهم مجتمع تعرض للتهميش على مدار التاريخ— تجمعات سكنية عشوائية وكانوا يواجهون دائماً خطر التهجير أو التعرض لمخاطر للفيضانات. وفي عام 2008، ساهمنا في تحويل مدينة تعز إلى مدينة أكثر ملاءمة للعيش، وأكثر صموداً أمام الفيضانات، مع إعادة توطين 240 أسرة بشكل آمن.
من الجوانب المهمة الأخرى في عملي في اليمن، تعزيز التمكين الاقتصادي للمرأة، من خلال تصميم أدوات لإدارة الأصول المجتمعية على نحو يشمل الجميع دون إقصاء لأحد. هذه التجارب أكدت حقيقة بسيطة هي أن مشاركة النساء منذ البداية، لا تحقق نتائج إنمائية أكثر عدلاً وإنصافاً فحسب، بل أكثر استدامة.
لا تزال في ذاكرتي صورة لها بالغ الأثر في نفسي، إنها صورة لنساء يرفعن إصبعين للمطالبة بصك ملكية مشتركة للأراضي مع أزواجهن. هذه الصورة تعبير بسيط ولكنه جريء عن حقهن المشروع في الملكية والازدهار. ولقد ساهمنا في تحويل مطالب الملكية المشتركة إلى واقع ملموس—وهو إنجاز غير مسبوق للبنك الدولي في ذلك الوقت. لكن تحويل هذه المطالب إلى تغيير مستدام تطلّب قيادة ذات بصيرة نافذة، وفرق عمل على أعلى قدر من المهنية والقوة في مجال التنمية الاجتماعية، وشركاء وطنيين يتحلون بالشجاعة والاستعداد لتحدي الوضع الراهن.
لقد تعلمت درساً مهماً في مجال التنمية ألا وهو أن تحقيق الأثر الحقيقي يبدأ بالإنصات، وليس بالخطط والبرامج والموازنات المالية وحدها، بل من خلال الأشخاص الذين يبتكرون الحلول ويعملون على تحقيق نتائج مستدامة.
بلد يتغير
أُتيحت لي الفرصة أن أجوب اليمن بين عامي 2002 و2010—من جبال ساحل تهامة إلى المهرة قرب الحدود العمانية. في تلك السنوات، كان اليمن ينعم بالسلام، وبلد مضياف، وكانت إحدى المحطات التي لا تُنسى هي منطقة شِبام، بمبانيها الشاهقة المبنية من الطوب اللبن. هذه المنطقة من الأمثلة الأولى على التخطيط الحضري الرأسي، وقد تم تشييدها قبل قرون للحفاظ على المساحات ومواجهة الفيضانات الموسمية. وكانت أزقتها وحواريها الضيقة تعطي شعوراً وكأنك تعود بالزمن إلى الوراء. هذه المنطقة خير شاهد على براعة اليمن المعمارية. وقد عكست هذه الأماكن الدفء والتاريخ والآمال التي كانت تعانق اليمن قبل اندلاع الصراع.
لقد ألحقت سنوات الصراع أضراراً بالغة بالبنية التحتية والمؤسسات والنسيج الاجتماعي. وتراجعت المكاسب الإنمائية التي ترسخت في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ودفعت المجتمعات المحلية إلى مزيد من الضعف والمعاناة. أما الطرق التي كانت تربط بين المناطق في السابق فقد أصبحت الآن مدمرة أو غير آمنة. وتعاني أنظمة الصحة والتعليم من ضغوط هائلة وصلت إلى أقصى حد ممكن احتماله والمؤسسات تعمل بموارد محدودة. لكن الصراع سلط الضوء أيضاً على أهمية المرونة والثقة والشراكات المحلية. فحتى في ظل أوضاع الهشاشة، فإن التنمية ليست ممكنة فقط، بل هي أمر حتمي وضروري.
بناء سبل عيش مستدامة وقادرة على الصمود
جدّدت زيارة حديثة لفريق العمل التأكيد على أهمية الحفاظ على المشاركة الفعالة والمستمرة. وقد شهدنا عن قرب التأثير المباشر للاستثمارات الجارية، كما لمسنا التزام المؤسسات الوطنية وشركاء المجتمع المدني بالعمل معنا.
لا تزال المياه أحد أهم التحديات التي تواجه اليمن، وقد تراجعت مستويات المياه الجوفية خلال الفترة ما بين الثلاثين إلى الأربعين عاماً الماضية، حيث وصلت نسبة الانخفاض إلى 7 أمتار سنوياً، لكن المشروعات التي يدعمها البنك الدولي ساهمت في إبطاء استنزاف المياه الجوفية وتوسيع إمكانية الوصول إلى خدمات الصرف الصحي وإمدادات المياه، استناداً إلى تقرير المناخ والتنمية الخاص باليمن والدراسة التشخيصية للأمن المائي، نتطلع إلى اتباع نهج متكامل على مستوى الأحواض لحل مشكلات المياه والغذاء.
يمكن للصناعات الزراعية أن تؤدي دوراً محورياً في إحداث تحول في الاقتصاد الريفي في اليمن وخلق فرص العمل. فالزراعة تساهم بما يقرب من 20% من إجمالي الناتج المحلي، ويعمل بها أكثر من نصف القوى العاملة. ونظراً لأن الصراع أجبر الأسر على العودة إلى المناطق الريفية، أصبح الاستثمار في هذا القطاع خياراً منطقياً. ومن هنا نتعرف على الجهود المشتركة بين المؤسسة الدولية للتنمية ومؤسسة التمويل الدولية لتطوير سلاسل القيمة في قطاعات البن، والألبان، والعسل، وهي قطاعات تمتد بجذورها في الهوية الثقافية لليمن. لقد قدم اليمن البن للعالم عبر ميناء المخا، ولا يزال العسل اليمني من أجود الأنواع على مستوى العالم. ومن المعلوم أن مواءمة الاستثمارات في الصناعات الزراعية والمياه على مستوى الأحواض نفسها سيعظم من الأثر المحقق وسيخفف من الاعتماد على الواردات الغذائية.
توفر مصائد الأسماك 1.7 مليون فرصة عمل، لكن مع ممارسات الصيد الجائر وتغير المناخ، ستنخفض الأرصدة السمكية بنسبة 23% بحلول منتصف القرن. وفي إطار مشروع التنمية المستدامة لمصائد الأسماك، يجري تعزيز الموارد البحرية وتحسين سبل كسب العيش للصيادين، إلى جانب توقيع بروتوكولات جديدة لتعزيز التعاون الإقليمي. ونحن نسعى إلى فرص تعاون مع مؤسسة التمويل الدولية لجذب استثمارات القطاع الخاص في مجال تربية الأحياء البحرية وسلاسل القيمة للأطعمة البحرية، كما نبحث عن فرص في مجالي سلاسل القيمة لمصائد الأسماك والسياحة البيئية البحرية، على نحو ما حدث في المملكة العربية السعودية حيث تعدّ الشعاب المرجانية من أبرز عوامل الجذب.
رؤية للمستقبل
صمود اليمن هو شهادة حية على قوة شعبه، ودعوة للعمل من أجل تحقيق التعافي المنشود. وإذا كانت الاحتياجات الإنمائية هائلة، فإن إمكانيات اليمن ومقدراته كبيرة وواعدة. ومن خلال الاستثمارات المستدامة، والشراكات الإستراتيجية، والتركيز القوي على شمول الجميع، يمكن لليمن رسم طريق السلام والازدهار والاستقرار.
من الضروري أن تعمل أصوات المجتمعات المحلية على رسم مستقبل اليمن، لا سيما النساء المطالبات بالحقوق، والشباب الباحثون عن الفرص، والمزارعون والصيادون الذين يعيدون بناء سبل كسب عيشهم من البداية. هؤلاء من حافظ على تماسك اليمن، وبناءً عليه لا بد أن يحظوا بالأولوية على مستوى جهود إعادة إعماره.
لقد أكدت عودتي إلى اليمن لي مجدداً أن التنمية القائمة على الثقة، والإنصات إلى أصحاب المصلحة والمعنيين، والهدف المشترك، تستطيع الصمود حتى في أقسى الظروف. ومع الدعم المناسب، يمكن أن يكون مستقبل اليمن على القدر نفسه من عزيمة هذا الشعب وتصميمه على تجاوز الصعاب.
انضم إلى النقاش