ربما تكون أسواق العمل الدولية هي آخر القلاع الباقية من سياسة الحماية. نعلم أن تخفيف القيود على انتقال العمالة، لاسيما الأقل مهارة، يمكن أن يحقق زيادة هائلة في مستوى الرفاهة على نحو يتضاءل أمامها التحسن الذي يحققه التحرير الكامل للتجارة، بحسب بعض التقديرات. ومع هذا، فقد كان التقدم على هذه الجبهة بطيئا للغاية.
بعد حضوري العديد من المؤتمرات والفعاليات حول هذا الموضوع، خرجت وأنا مصابة بالإحباط نتيجة عجزنا عن المضي قدما بالمناقشات بطرق فعالة، كما تملكني الذهول إزاء استمرار التفكير بأساليب مازالت تشدنا إلى الوراء.
ولكي نتمكن من التحرك قدما إلى الأمام، نحتاج إلى شحذ عقولنا وقدرتنا على الحشد لنتمكن من نواري الثرى ثلاث رؤى ظلت متسلطة علينا حينا من الدهر، وبعد ذلك نتقمص دور وسيط الزواج في تنسيق إقامة حفل زفاف.
الجنازات الثلاث التي نحتاج إليها
الفكرة الأولى التي أدت إلى تجمد هذه المناقشات هي أن التنمية لا تتعلق إلا بالمكان. ومن ثم تُختزل التساؤلات التي تُثار في مجال البحوث وفي عالم وضع السياسات في سؤال واحد: ما الذي فعلته هجرة البشر للتنمية في المناطق التي هاجروا منها؟ في حين أنه إذا فسرت التنمية على أنها تتعلق بالعنصر البشري، فإن كل ما يهم هو أن الهجرة تزيد فرص العمل، وتوسع نطاق الاختيار والوكالة، وتزيد الدخل، وكثيرا ما تؤدي إلى تنويع المخاطر بالنسبة للأسر. إذا لم تكن هذه هي التنمية، فماذا تكون إذن؟
الفكرة الثانية المؤسفة والتي زحفت على مفرداتنا واكتسبت شهرة تحسدها عليها شركة كوكاكولا هي "نزيف العقول" او "هجرة العقول"- والتي تستحضر صورا لخسارة رأس المال البشري من البلدان الفقيرة لصالح البلدان الغنية. أما الوضع المغاير للواقع الذي ينطق به لسان حال العديد من البلدان المصدرة للعمالة على الفور فهو "لتذهب العقول إلى الجحيم."! فعندما يُحرم رأس المال البشري من الفرص المناسبة فإنه ينتقل إلى مكان آخر يجد فيه هذا التقدير ليحقق ما يحلم به أي خبير اقتصادي من توزيع الموارد بشكل جيد.
في الحقيقة، يمكن للتطلعات إلى زيادة إمكانات كسب الدخل عن طريق الهجرة أن تزيد الالتحاق بتخصصات في التعليم تجد رواجا عالميا، ومن ثم يزيد المعروض من تلك العقول. ومع هذا، فإن البصمة الطاغية التي تركها مصطلح "نزيف العقول" على صياغة السياسات هي السماح ببروز فكر الوصاية الذي يقول بأن بعض البلدان أشد احتياجا إلى مهاجريها، ولذا فإما أن يعودوا إلى أوطانهم أو يتم رفض توظيفهم في الأساس.
هاتان الفكرتان تقودان إلى الثالثة التي كان ضررها أكبر من نفعها – وهي "الواو" التي تبدو بريئة في الجمع بين الهجرة و التنمية. هذه الفرضية الضمنية وراء استخدام أداة الربط هذه هي أنه لا ينبغي اعتبار الكلمة التي تسبقها مرادفا للتي تليها، ومن ثم يتعين ربطهما ببعض من خلال قنوات أخرى. .
وقد أدى هذا إلى ظهور تصورات محلية الصنع بأن هذه القنوات المقترحة كانت إما التحويلات أو العائدين، بمعنى أنه إذا حول المهاجرون الأموال إلى بلادهم عندئذ تكون التنمية منظورة، أما إذا عاد المهاجرون إلى بلادهم بما اكتسبوه من مهارات ومعرفة فقد ساهموا إذن في التنمية.
بالطبع، يمكن أن تكون لكل من هذين الرافدين آثاره الإيجابية، لكن تعقبهما باعتبارهما الحلقة المفقودة بين الهجرة والتنمية يبدد الكثير من وقتنا! فقياس التلازم بين الهجرة والتنمية من خلال التحويلات هو اعتبار التحويلات بين أفراد الأسرة تنمية إذا عبرت هذه التحويلات الحدود الدولية (إذا كان أفراد الأسر لا يعيشون في مكان واحد) لكنها لم تعد تعتبر كذلك إذا حدثت على مائدة الطعام (إذا كان أفراد الأسرة يعيشون في مكان واحد).
القناة الأخرى للعودة هي أيضا طريق مسدود، وقد سعت الكثير من المحاولات حسنة النية إلى تحفيز العودة وتحويل المهاجرين العائدين إلى رواد أعمال. ومع هذا، إذا لم تتغير عوامل الشد والجذب التي تحفز الهجرة، فتلك إذن مسألة هامشية في أحسن الأحوال.
والآن، نأتي للزفاف
ماذا لو أننا أعدنا تعريف نقطة البداية لتكون هكذا: الهجرة هي التنمية.
مسائل السياسات ذات الصلة تركز إذن على ما يمكن أن تفعله البلدان المصدرة والمستقبلة للعمالة معا بما يضع العمالة المهاجرة في صميم هذه المناقشة بطريقة تساعد على تفعيل إمكانيات التنمية البشرية من خلال القدرة على الانتقال.
ويعني هذا النأي بأنفسنا عن القلق بشأن التحويلات والعائدين، والتركيز بدلا من ذلك على السياسات والمؤسسات التي يمكن أن تساعد على وضع أنظمة أفضل للهجرة – من التوظيف، إلى البحث عن الوظائف، والمواءمة بين مؤهلات العامل ومتطلبات العمل، وحماية العامل، وإمكانية انتقال الحقوق الاجتماعية والمهارات، ومعايير التدريب والمصادقة، وأخيرا الانخراط الناجح للمهاجرين واندماجهم في أسواق العمل الدولية من أجل تحقيق أفضل النتائج الإنسانية والاقتصادية الممكنة.
ويتطلب بناء هذه الأنظمة تنسيقا هائلا بين البلدان المصدرة للعمالة والمستقبلة لها، بينما يغيب حاليا بالفعل مثل هذا التنسيق لأن سياسات الهجرة توضع في كثير من الأحيان من منظور الأمن القومي. ويمكننا أن نعطي دفعة لهذا التنسيق بصياغة حوار وتشكيل شراكات على ثلاثة مستويات:
الأولوية القصوى هي توسيع خيارات الحركة أمام الفقراء وأصحاب المهارات المتدنية نسبيا. وهذا سيتطلب استعادة الثقة في الترتيبات الثنائية بشأن العمالة. ولكي نفعل ذلك، سنحتاج إلى أن نأخذ زمام المبادرة بتجريب السياسات في تصميم وتطبيق هذه الأنظمة – غالبا في طبيعة الانتقال المؤقت للأفراد التي تتيح الانتقال بمواصفات معينة لأسواق العمل في قطاعات مختارة ولفترات محددة، كما هو الحال في حالة العمالة الموسمية في الزراعة. كل هذه الأنظمة تمثل حلا مقبولا لكافة الأطراف، وتوفر فرص عمل لأعداد كبيرة من الفقراء من جزر البحر الكاريبي والمحيط الهادئ. لكن مثل هذه الأنظمة قليل نظرا لصعوبة تصميمها وتنسيقها وإدارتها. هنا يمكن للبنك الدولي أن يتولى زمام القيادة في إيجاد سلع النفع العامة المطلوبة لتعزيز الثقة وإدارة مثل هذه الأنظمة بشكل جيد، مثلما فعلنا في منطقة البحر الكاريبي قبل فترة. وهذا مهم إذا كان للفقراء نصيب من الحصول على فرصة عالمية للتوظيف.
أما بالنسبة لمتوسطي المهارات، فإننا بحاجة لوضع أنظمة تسمح لهم باصطحاب هذه المهارات معهم في الخارج، ومنع الانتقاص من هذه المهارات بالانتقال- هذا سيعني الانتباه إلى معايير سوق العمل العالمية بالتوازي مع التنسيق بشكل أفضل بين السياسات واحتياجات القطاع الخاص.
بالنسبة لذوي المهارات العالية الذين يتمتعون بفرصة أفضل في يسر الانتقال لكن يظل القلق يساورهم بشأن تأثير الهجرة على توفير الخدمات الأساسية – كالرعاية الصحية - فإننا نحتاج إلى طرح آليات مبتكرة للتمويل المشترك حيث يستثمر المستفيدون مستقبلا في أنظمة التعليم والتدريب في البلدان الفقيرة بطريقة تزيد من توفير المهارات النادرة عالميا.
مثل هذه الشراكات المستنيرة ستساعد على قلب التفكير السلبي رأسا على عقب ووضع نظام يطلق عنان الفرص أمام التنمية البشرية بطرق مهمة.
هذه المراجعة في رأيي تأخرت كثيرا. ومن شأن تغيير توجهاتنا تجاه الهجرة الآن أن يساعد البنك على أن يكون فاعلا في مجال تشتد فيه الحاجة الملحة إلى قيادتنا الفكرية وقدرتنا على الحشد وجمع الأطراف المعنية. وقد بادرنا بالبدء من خلال البرنامج الدولي لانتقال العمالة الذي ننفذه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – يرجى زيارة موقعنا (E) للاطلاع على ما نقوم به. كما سننخرط بعمق أكثر في قضايا انجلت هنا من خلال سلسلة تالية من التدوينات- لذا نرجو أن تتابعونا وتشاركونا بآرائكم.
انضم إلى النقاش