نشر في أصوات عربية

التحولات والتخلف الزمني: فهم ظاهرة مثبطة لكنها مؤقتة

الصفحة متوفرة باللغة:
Shutterstock 547818703
ColorMaker

بعد أن أمضيت الكثير من حياتي العملية في العمل مع البلدان التي تمر بمرحلة انتقالية، لا يزال من المؤلم أن نشاهد خيبة الأمل التي كثيرا ما تسيطر على الناس الذين لديهم شجاعة تغيير الأوضاع السياسية السيئة، لكنهم يضطرون لاحقا إلى العيش في مصاعب اقتصادية. يبدو أن من اختاروا التغيير يعانون أكثر من غيرهم، ولكن ما يجدد الأمل هو أن ذلك، لحسن الحظ، لم يمنع الناس من المحاولة. وكان هذا الوضع ينطبق تماما على جنوب أوروبا في أواخر السبعينيات (على الرغم من أنني كنت لا أزال في المدرسة في ذلك الوقت)، وبلدان وسط وشرق أوروبا في التسعينيات، والعديد من البلدان الأفريقية في العقد الأول من القرن 21، وأيضا - لما للتاريخ من عادة في تكرار نفسه - تونس.

هناك بعض أوجه الشبه الملحوظة في هذه السياقات التي تبدو مختلفة جدا. أولا، يبدو أن سرعة التحولات السياسية تتخطى دائما التحولات الاقتصادية، مما يربط بين النظم السياسية المفتوحة والتراجع الاقتصادي. وبالنظر إلى بلدان مثل بولندا اليوم، من الصعب أن نتصور أنه في غضون بضع سنوات من الإطاحة بنظام قمعي، اختار الناس تقريبا نظام "رجل قوي" بسبب الصعوبات الاقتصادية الشديدة التي جاءت مع تحول اقتصادي طال أمده. وعانت إسبانيا من محاولة انقلاب عسكري في غضون سنوات من تحولها، قام أيضا على عدم الرضا الاقتصادي. وشهدنا ردود فعل مماثلة، بدرجات متفاوتة، من جنوب أفريقيا إلى صربيا وأماكن كثيرة بينهما. وهناك إحساس آخر بالإحباط يأتي من حقيقة أن التغيير السياسي ليس خطيا وكاملا أبدا، وأن ما سيظهر دائما سيحتفظ ببعض عناصر الماضي (وهذا يمكن أن يكون مزعجا للغاية في الواقع). الأمر الذي يصعب قبوله كما جرت العادة. 

ومع ذلك، وبالنظر إلى أن تونس تنظر 6 سنوات إلى الماضي، وهناك شعور مبرر من خيبة الأمل مع التداعيات الاقتصادية الناجمة عن المرحلة الانتقالية، أود أن أقترح النظر إلى النتائج الإيجابية لتلك البلدان حيث علقت الناس هناك خلال الأوقات الصعبة، واكتسبت مستقبلا أفضل. فمع الحديث مع رواد أعمال صغيرة وصغار المزارعين مؤخرا في جنوب تونس، في منطقة تعاني بشدة من انهيار السياحة، ذُهلت من أن الناس ما زالوا قادرين على رؤية فوائد الحرية السياسية، فكما قال شخص ما "قبل عشر سنوات لم نكن نتمكن أبدا من الجلوس هنا وإجراء هذه المحادثة، ما كانت الشرطة لتسمح بذلك، وهذا يهمنا". ومن ثم، فهذا مؤشر حقيقي على القدرة على الصمود، كما هو الحال في العديد من المشاريع الصغيرة التي تهدف إلى بناء نوع جديد من السياحة ليحل محل "النموذج القديم"، والنساء اللواتي يسيطرن على مستقبلهن كاللاتي بدأن جمعية تعاونية لتصنيع النسيج. في الواقع، لا يختلف هذا عن مبادرات مماثلة كان يمكن أن نراها في بولندا وبلغاريا في السنوات الأولى من التسعينيات.

إن الحجة المضادة التي غالبا ما تعطى للمقارنة مع شرق ووسط أوروبا هي أن تونس ليس لديها ’ميزة’ العضوية في الاتحاد الأوروبي. وأود أن أعترض بأن تونس قد لا تكون قادرة على الطموح إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، وهي دائما حافز للدول الأوروبية في المرحلة الانتقالية، لكنها لا تزال تستفيد من التكامل الاقتصادي الأعمق مع أوروبا. وبالاستماع إلى رواد الأعمال المبتكرين الشباب، فإن هذا التكامل هو بالفعل حقيقة واقعة، وآمل أن يتبع بقية القطاعات الاقتصادية. إن خيار التكامل الاقتصادي هو ما ينبغي على هذا البلد أن يختاره ويحققه: فهو سيستقطب الاستثمارات الخارجية التي من شأنها أن تساعد في بناء قطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة في تونس، والسياحة الراقية التي يمكن أن تنعش المناطق في الجنوب والغرب بقدر انتعاش المناطق القريبة من الساحل.

وأخيرا، فإن الحجة الأكثر إقناعاً للبقاء في المسار الحالي هي أن معظم البلدان التي واجهت المشاكل الاقتصادية في مرحلة التحول المبكر للاحتفاظ بالنظم الاقتصادية والإدارية المفتوحة انتهى بها المطاف في مكان اقتصادي أفضل بكثير، في حين أن العكس نادرا ما يصحّ. وبالتالي، فإن استكمال التحول السياسي قد لا يكون ضمانا للنجاح الاقتصادي، ولكنه يزيد كثيرا من فرص تحققه. ونحن نعلم أيضا من التجارب السابقة أن الاقتران بنظام سياسي مفتوح مع اقتصاد مفتوح هو عنصر حاسم لنجاحهما كليهما. ومن أجل من عانوا خلال هذه السنوات العصيبة، ينبغي أن نواصل الضغط على صناع القرار لفتح الاقتصاد التونسي بنفس الطريقة التي فتح بها النظام السياسي سابقا. وبهذه الطريقة، سنستطيع في بضع سنين أن نقتبس تونس بنفس الطريقة التي نقتبس بها اليوم العديد من البلدان كأمثلة ناجحة.
         
 

بقلم

توني فيرهيجن

مدير للبنك الدولي في تونس

انضم إلى النقاش

محتوى هذا الحقل سيظل خاصاً بك ولن يتم عرضه للعامة
الأحرف المتبقية: 1000