نُشر هذا المقال لأول مرة في Huffpost Maghreb.
باعتبارها أحد رواد مشروع رأس المال البشري الجديد الذي وضعه البنك الدولي، كانت تونس إحدى الدول الست التي قدمت عرضاً عن رؤيتها لتنمية رأس المال البشري في الاجتماعات السنوية للبنك الدولي التي عقدت في أكتوبر المنصرم في بالي، إندونيسيا.
لنا أن نفخر بمشاركة تونس في هذا النقاش العالمي على الرغم من أن تونس مازالت تواجه العديد من التحديات. بيد أن الرغبة في الأداء الأفضل مازالت موجودة بالتأكيد، مما يعكس النمط الفكري للحبيب بورقيبة الذي فهم أهمية الاستثمار في رأس المال البشري. لكن هذا الاختيار ليس واضحا، إذ تفضل الحكومات والسياسيون في كل بلد في العادة بناء الطرق والسدود ومحطات توليد الكهرباء على الاستثمار في التعليم الأساسي والصحة والحماية الاجتماعية. ولذا، فعلى الرغم من استمرار الوضع الهش للاقتصاد الكلي في تونس، فإن التزام الحكومة ببناء رأس المال البشري يعد علامة إيجابية لمواطنيها وللمستثمرين.
إن أجندة تطوير رأس المال البشري كبيرة ومعقدة، والتصنيف الذي تم الكشف عنه في 11 أكتوبر/تشرين الأول من واقع مؤشر رأس المال البشري الجديد يظهر أن ثمة عوامل ثلاثة قوضت أداء البلاد: (أ) محدودية إتاحة برامج التعليم ما قبل المدرسي (التي تعد أهم البرامج في حياة الطفل وعاملا من عوامل نجاح أي طفل في الحياة)؛ (ب) ارتفاع معدلات التسرب من التعليم، لاسيما في مرحلة التعليم الثانوي، ورداءة نواتج التعلم التي تعكسها النتائج الإجمالية للاختبارات المعترف بها دوليا.
سأعرج في هذه المدونة على بعض الإصلاحات الجارية التي يمكن أن تحدّ من معدلات التسرب من التعليم وتزيد مشاركة الأطفال في برامج التعليم المبكر، التزاما بهذا الهدف الذي رصدته الاستراتيجية الوطنية متعددة القطاعات لتنمية الطفولة المبكرة التي تبنتها الحكومة مؤخرا. ويتضمن ذلك إصلاح نظام المساعدات الاجتماعية التي تتصف برامجها بسمعة سيئة في تونس من حيث إمكانية الحصول عليها ونطاق تغطيتها.
والحقيقة أن الإنفاق العام على المساعدات الاجتماعية كان ضعيفا على الدوام بالمقارنة بنطاق الدعم المخصص للطاقة والسلع الأساسية. ولا تستفيد أشد الفئات السكانية الأولى بالرعاية فقط من برامج الدعم بشكل أقل نسبيا من الطبقة المتوسطة والقطاع الخاص، بل إنها تستحوذ أيضا على ما يقرب من 10%من إجمالي الناتج المحلي، لتترك حيزا صغيرا لتمويل البرامج الأساسية التي يمكن أن تتيح للأسر الأولى بالرعاية إلحاق أطفالها ببرامج التعليم ما قبل المدرسي واستمرار المراهقين في التعليم الثانوي.
ما الذي يمكننا أن نفعله لتغيير هذا الوضع؟ علينا أولا تحديد الأسر الأولى بالرعاية. فالتكنولوجيات الجديدة ومنهجيات الاستهداف المتقدمة تجعل من الممكن "معرفة الفقراء." وتم تطبيق نهج الاستهداف هذا بنجاح كبير، أولا في أمريكا اللاتينية، ثم في جنوب آسيا. وتتيح الاستعاضة عن الدعم العام ببرنامج المساعدات الاجتماعية الموجهة تحويل المزيد من الموارد إلى الأسر الأولى بالرعاية.
ويشكل برنامج تحديد الأسر الأولى بالرعاية، ووضع قاعدة بيانات، وتطوير نماذج تطبيقية لبرامج المساعدات الاجتماعية (برنامج المساعدات للأسر المحتاجة، وبرنامج البطاقات الصحية مخفضة التكلفة أولى العناصر التي ينبغي وضعها عند تنفيذ برنامج الإصلاح. ورغم الصعوبات الأولية، فقد قبل المسؤولون العموميون هذا النهج الذي يتعين انجازه بنهاية عام 2019.
أما الخطوة التالية فتتمثل في تبني تشريع ينظم الانتقال إلى نظام للاستهداف. وللأسف، لم تقر بعد جمعية نواب الشعب قانون "آمن"، لكن هناك أملا في استكماله أثناء الفصل التشريعي الحالي. ويعد قانون آمن أداة ممتازة " لترسيخ" التحول في نظام الحماية الاجتماعية في إطار قانوني.
ربما يكون أهم وجه من أوجه برنامج الإصلاح زيادة الميزانيات المخصصة للمساعدات الاجتماعية. ويتضمن ذلك نقل الموارد من الطبقتين المتوسطة والثرية إلى الفئات الأولى بالرعاية من خلال مبادرات الحد من الدعم العام وإعادة استثمار هذه الموارد في برامج أقوى للمساعدات الاجتماعية. ونقر بالصعوبات الكامنة في مثل هذا الاختيار، بيد أنه يظل ضروريا ومهما.
وفي النهاية، فإن تطبيق البرامج المتكاملة لتحسين حصول كافة الشرائح على الخدمات الأساسية بجودة عالية سيتطلب تنسيقا أكبر فيما بين مختلف القطاعات، كالشؤون الاجتماعية والصحة والتعليم. وتبني مثل هذا النهج المتكامل على مستوى العديد من القطاعات سيشجع الاحتواء وسيساعد على مناهضة توارث الفقر عبر الأجيال.
لقد أحرزت تونس بالفعل تقدما مطردا في اثنتين من الفئات الأربع التي تم تحديدها أعلاه كشروط أولية لإصلاح اجتماعي حقيقي و جريء. ويجب الآن تطبيق هذين العنصرين بشكل كامل. ولم يتم التطرق للمكونين الثالث والرابع. ومن الأهمية بمكان بحث هذا الموضوع في إطار النقاش حول قانون الميزانية عام 2019.
إذا أرادت تونس أن تعزز تطوير رأس مالها البشري، فسيتعين عليها تشجيع الاحتواء لما يقرب من 900 ألف أسرة أولى بالرعاية في البلاد، من خلال إتاحة التحاق أطفالها ببرامج التعليم ما قبل المدرسي، وإبقائهم في نظام تعليمي جيد حتى سن الثامنة عشر، وتزويدهم بالرعاية الصحية الأولية المناسبة والتغذية. وإذا أخفقت تونس في ذلك، فسيكون من الصعب عليها تحسين تصنيفها على مؤشر رأس المال البشري في الفترة من الآن وحتى صدور الطبعة التالية خلال ثلاث سنوات في مراكش.
انضم إلى النقاش