لقد قضيت الآن، شأني شأن الكثير من زملائي، بضع سنوات في محاولة فهم حقيقة أسواق العمل في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ولاسيما فيما يتعلق بالشباب.وعند النظر إلى ما تم من بحوث استهدفت تحديد ديناميكيات أسواق العمل للمنطقة كلها، يتبادر إلى الذهن حوار جرى بين فئة نموذجية مكونة من مجموعة من الشبان المغاربة حول عملهم باعة متجولين في الدار البيضاء. لم يعتبر أي منهم ما يقومون به "وظيفة حقيقية".فنادرا ما كان عملهم مجزيا، بل كان محفوفا دوما بالمخاطر، وكثيرا ما يتعرضون لمضايقات الشرطة، والأهم من ذلك، من وجهة نظرهم، أن الدخل الذي يدره عليهم لا يمكن أيا منهم من التقدم لخطبة فتاة، ناهيك عن محاولة تكوين أسرة.
لكن ليس بالإمكان أبدع مما كان.
أما التعليم الذي تخلَّوا عنه قبل وقت طويل، فلم تكن لديهم ثقة فيه كسبيل للحصول على وظيفة جيدة، ويزعمون أن الحصول على وظائف أفضل وأكثر استقرارا ليس متاحا إلا لأبناء الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة بفضل ما لديهم من ثروة واتصالات جيدة.
لقد تعلَّمت دروسا قيِّمة كثيرة من هذا الحوار.أولها أن الوظائف تتيح أكثر كثيرا من مجرد وسيلة لكسب العيش. وهي أيضا ضرورية لتحقيق الكثير من معالم الحياة، مثل تكوين أسرة، ومصدر حيوي للاعتراف بالوضع الاجتماعي وما يقترن به من الإحساس بقيمة الذات.
وكان من الواضح أيضا أن نوعية الوظائف المتاحة تماثل في أهميتها عددها.فالبيع في الشوارع محفوف بالمخاطر ويدر دخلا قليلا، وفضلا عن ذلك فإنه مخيب للآمال، وعلى نطاق واسع يؤدي هذا الشعور بخيبة الأمل إلى عدم الاستقرار الاجتماعي. ورغم ذلك، فإن الوظائف ذات النوعية الجيدة في المنطقة تشكل امتيازا لا يزال بعيد المنال لأغلبية السكان.
وأغلب العمال في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل بالمنطقة يعملون، شأنهم شأن كثير من الشبان المغاربة، في النشاط الاقتصادي غير الرسمي، الذي يدفع أجورا متدنية ويدر عوائد محدودة لتعليم الفرد ونادرا ما يشكل أساسا للحصول على عمل أفضل في المستقبل، مثل إنشاء مؤسسات أعمال ناجحة.ومن ناحية أخرى، فإن الوظائف القليلة المرغوب فيها في الاقتصاد – وهي تلك التي توفر حماية اجتماعية أو تدر دخلا فوق المتوسط- ما زالت تتيحها في الغالب الدولة، وتمنحها في الغالب للذكور في منتصف العمر على حساب العمال الأصغر سنا والنساء.
ومما يزيد الأمور صعوبة أن هذه التفاوتات الحادة بين العمال لا تزال قائمة.وباختصار، فإن أسواق العمل في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تعاني من محدودية قدرة العمالة على التنقل من عمل إلى آخر. فمن يحوزون وظيفة جيدة يحتفظون بها إلى الأبد تقريبا، ومن يشغلون وظيفة هشة نادرا ما ينتقلون إلى وظيفة أفضل.وسكان المناطق التي ترتفع فيها معدلات البطالة يفتقرون إلى السبل اللازمة للانتقال إلى الأماكن التي يشتد فيها الطلب على الأيدي العاملة، ومن ثم يبقي هذا على فروق قوية بين الريف والحضر.والأفراد الذين يتمتعون بنفس المستوى التعليمي ينتهي بهم الأمر بالحصول على رواتب شديدة الاختلاف، وذلك حسب عملهم في القطاع العام أم في القطاع الخاص غير الرسمي في معظمه، ولكن قواعد صارمة تحول دون انتقال العمال بين هذه القطاعات أو حتى تضييق شقة هذه التفاوتات.
لكن ما أدهشنا عندما أمعنا النظر في الأمور، أننا لاحظنا مع أن الوظائف المحمية أو ذات الأجور المرتفعة قليلة وتتميز بالاستمرارية، فإن معظم الأسر يكون لديها عامل واحد على الأقل يشغل مثل هذه الوظيفة، ولعل هذا التخصيص للوظائف ساعد على تهدئة هذا الوضع المتفجر لبعض الوقت، ولكن في الوقت نفسه فإنه عزز من النموذج الاجتماعي الذي يتركز حول العائل الذكر للأسرة، وهو نموذج يتداعى الآن تحت وطأة الطفرة السكانية.
ومع ذلك، فإن ما يبرز من نظرة فاحصة على أسواق العمل في المنطقة هو كِبَر عدد الأفراد في سن العمل الذين ليس لديهم عمل، وهم مصدر هائل من الموارد البشرية غير المستغلة.
لا تزال ثلاثة من كل أربع نساء في سن العمل غير مشاركات في القوى العاملة، وتبلغ نسبتهن 80 إلى 90 في المائة من السكان غير النشطين في المنطقة.ولم تتحسن هذه المعدلات تحسنا كبيرا رغم تحسن المستوى التعليمي للنساء، وبعد عقد من النمو الاقتصادي المتواصل حتى الأزمة المالية الأخيرة.وفضلا عن ذلك، فإن عددا كبيرا إلى درجة تثير القلق من الشبان غير ملتحقين بالدراسة ولا يعملون، وفي بلدان كثيرة فإن معظمهم خارج القوى العاملة.ومن ثم، فإن معدلات البطالة بين الشباب التي كثر الحديث عنها في المنطقة، وهي الأعلى على مستوى العالم، تتضمن تقديرات لمعدلات البطالة أقل من الواقع كثيرا، لأنها لا تشتمل إلا على من يبحثون بنشاط عن عمل.
وأكثر ما لمسته من مقابلاتي هو الشعور بخيبة الأمل للإحساس عن العجز عن فهم كيفية تحويل العمل الجاد والموهبة إلى نجاح.وأذكُر امرأة عمرها 24 عاما من طنجة روت كيف أنها التحقت بكلية الحقوق بفضل مساعدة وتضحية أسرتها الفقيرة، لتكتشف في النهاية أن الدرجة العلمية التي حصلت عليها لا تفيدها في الحصول على وظيفة.
وقد أصبحت الوظائف في القطاع العام في بعض البلدان نادرة جدا، ويشتد الطلب عليها حتى أنه لا يتطلع إليها بثقة إلا من يأتون من المؤسسات العليا، أو يتمتعون بأرفع الاتصالات والعلاقات الاجتماعية.وعند البحث عن عمل في الشركات الخاصة، علمت المرأة أن درجتها العلمية ليست لها قيمة، وان ما يطلبه أرباب الأعمال هو إتقان اللغة الفرنسية ومهارات الحاسوب، أو في بعض الحالات استعدادها أن توجد في أماكن عمل حيث تكون سلامتها كامرأة في خطر.
ومع ذلك كله، فإنها حاولت جاهدة أن تشرح لأفراد أسرتها الأميين في معظمهم لماذا لم تؤد كل هذه السنوات من التعليم إلى حصولها على معيشة أفضل من معيشتهم. وفي الحقيقة، فإن أسباب هذا التوزيع غير الكفء والظالم للفرص معقدة وتستمد جذورها من التاريخ الاقتصادي والاقتصاد السياسي للمنطقة. ويتطلَّب فهم هذه الأسباب بحث عدد من العوامل المؤثرة:ما السبب في أن الشبان المتعلمين لم يعد بمقدورهم الانضمام إلى شريحة الطبقة المتوسطة مثلما كان الحال مع آبائهم؟ لماذا لم يحقق النمو الاقتصادي منافع أوسع لأغلبية السكان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بالمقارنة بكثير من بلدان آسيا أو في بلد مثل تركيا؟ما السبب في أن الوظائف الجيدة القليلة المتاحة يجري تخصيصها في معظمها للذكور الأكبر سنا على حساب كل من الشباب الأصغر سنا والنساء؟ما السبب في أن القطاع الخاص الرسمي يُوظِّف هذه النسبة الصغيرة من السكان العاملين؟
هذه المُدوَّنة جزء من سلسلة أسبوعية نأمل أن تتيح نواة للتفكير في هذه الأسئلة المهمة استنادا إلى أحدث بياناتنا وبحوثنا.والهدف المشترك لهذه المُدوَّنات هو حفز المناقشات بشأن "ماذا تريد أن تقول لوزير مالية بلدك" استعدادا للاجتماعات السنوية للبنك الدولي في أكتوبر/تشرين الأول 2012. ونريد معرفة ما الذي يحول -في رأيك- دون إطلاق القدرات والإمكانات الكامنة للناس، وما الذي يمكن عمله لخلق المزيد من الوظائف وتحسين نوعيتها في المنطقة.يُرجى أن ترسل إلينا بأفكارك وأن تنضم إلينا في دردشة حية عبر الإنترنت بشأن الوظائف في 17 سبتمبر/أيلول.
انضم إلى النقاش