إن فهم قدرات الذكاء الاصطناعي وكيفية تميزه عن الأدوات الرقمية السابقة يوفر لنا رؤية لتصور المسارات التي يمكن من خلالها تعزيز التنمية البشرية. فجميع البلدان تواجه هذا التحدي، إلا أن البلدان ذات المستوى الأدنى على مؤشر التنمية البشرية تواجه تحدياً إضافياً يتمثل في تراجع مسارات التنمية التي كانت تعتمد سابقاً على الصناعات التحويلية القائمة على التصدير. ولا تزال هذه البلدان تتباعد عن البلدان ذات المستويات المرتفعة للغاية على مؤشر التنمية البشرية (انظر الشكل أدناه). وفي الوقت نفسه، تتجاوز أنواع التحول الهيكلي التي تمر عبر الصناعات التحويلية، حيث يتم نقل فرص العمل مباشرة من الزراعة إلى الخدمات بدلاً من التحول إلى الصناعات التحويلية بي قطاعي الزراعة والخدمات.
السؤال هنا: كيف يمكن أن يساعد الذكاء الاصطناعي في التغلب على هذا التحدي؟ وهل انتشار الذكاء الاصطناعي سيترك البلدان ذات المستويات المنخفضة على مؤشر التنمية البشرية أكثر تخلفا عن الركب؟ لقد تم تناول هذه الأسئلة في تقرير التنمية البشرية لعام 2025 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
ملحوظة: يمثل المحور الرأسي الفرق بين وسيط المؤشر لمجموعة البلدان ذات المؤشر المرتفع للغاية (عند 0.800 أو أكثر) ووسيط مستوى المؤشر المنخفض (أقل من 0.550).
المصدر: تقرير التنمية البشرية لعام 2025.
وفي الشكل أدناه، يميز التحليل الاقتصادي التقليدي بين المهام والأعمال التي يمكن أتمتتها، حيث يتم التفريق بين المهام الروتينية وغير الروتينية. ففي السابق، كانت الأدوات الرقمية قبل ظهور الذكاء الاصطناعي تركز على أتمتة المهام الروتينية. أما الآن، فقد وسّع الذكاء الاصطناعي نطاق هذه الإمكانية ليشمل بعض المهام غير الروتينية، كما يظهر في التوسع الواضح الذي يتجاوز المهام الروتينية ليشمل بعض المهام غير الروتينية.
ومع ذلك ، هناك أربعة أسباب على الأقل لاعتبار الذكاء الاصطناعي أكثر من مجرد أداة للأتمتة.
أولاً، على الرغم من أن الذكاء الاصطناعي، وخاصة الذكاء الاصطناعي التوليدي مثل نماذج اللغة الكبيرة، بارع للغاية في بعض المهام أو جوانب منها ، فإن ذلك لا يعني أنه يمكن أن يكون بديلاً للبشر في تلك المهام. أحد الأسباب الرئيسية هو أن العديد من المهام التي تبدو سهلة الأتمتة تتطلب، عند الفحص الدقيق، تدخلاً بشرياً. وقد تكون التدخلات البشرية ذات قيمة خاصة في المواقف التي يمكن أن تؤدي فيها حتى الانحرافات الصغيرة في مخرجات الذكاء الاصطناعي إلى آثار واسعة النطاق، تتراوح من جيدة بشكل غير عادي إلى كارثية، مع وجود مخاطر كبيرة. على عكس الذكاء الاصطناعي، يتمتع البشر بقدرة فريدة على تقدير قيمة المخاطر والمنافع ووزنها الترجيحي، مما يمكنهم من الإسهام بشكل فريد في السياقات عالية المخاطر. وتتيح هذه السمات فرصة رئيسية لتحقيق التكامل بين البشر والذكاء الاصطناعي. بعض المواقف عالية المخاطر بديهية في حد ذاتها (مثل الحياة أو الموت) ، لكن البشر في النهاية يحددون ما هي القرارات عالية المخاطر، وعليهم تحديد السياقات التي تتطلب استخدام الآلة وحدها، أو البشر وحدهم، أو مزيجا من الاثنين. والأهم من ذلك، أن هذه التقييمات تعتمد على حالة الذكاء الاصطناعي وقدراته، لكن الذكاء الاصطناعي لا يحددها. لذلك، لا يمكن لأي تقنية من تقنيات الذكاء الاصطناعي أن تغني عن التدخل البشري عندما يكون ضرورياً من أجل الفحص الدقيق للنواتج. وهذا يعني استحالة أو عدم الرغبة في أتمتة العديد من القرارات بشكل كامل، ولكنه يفتح مجموعة غير محدودة من الفرص لتعزيز الإسهام البشري.
ملحوظة: يمثل الشكل البيضاوي الأحمر على الجانب الأيسر المهام التي يمكن أتمتتها باستخدام التقنيات الرقمية قبل الذكاء الاصطناعي (المهام الروتينية وفقا لتعريف النص في الشكل البيضاوي) ولكن مع الذكاء الاصطناعي تمتد هذه المهام إلى ما هو أبعد من المهام الروتينية. يمثل الشكل البيضاوي الأخضر على اللوحة اليمنى المهام التي يوفر فيها الذكاء الاصطناعي فرصا جديدة للتجويد.
المصدر: تقرير التنمية البشرية لعام 2025
ثانيًا، تخلق القدرات الجديدة للذكاء الاصطناعي، وخاصة الذكاء الاصطناعي التوليدي الذي يظهر تقدمًا ملحوظاً في توليد المحتوى والمهام الإبداعية، فرصاً جديدة للبشر للتفاعل مع الذكاء الاصطناعي بطرق يمكن أن تسرع من وتيرة الاكتشاف والابتكار وتفتح آفاقًا جديدة للإبداع. أما الذكاء الاصطناعي، فوفقا للمؤرخ الاقتصادي نيكولاس كرافتس، هو بمثابة اختراع لأسلوب جديد في الاختراع، حيث يمكن أن يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى زيادة مستوى إنتاجية الابتكار وربما معدل هذه الإنتاجية.
ثالثًا، إلى جانب تعزيز الإبداع والبناء على الإنترنت كمستودع للمعرفة، يوفر الذكاء الاصطناعي وسيلة جديدة للوصول إلى المعلومات وإعادة تجميعها بطريقة تقلل من الحواجز أمام الوصول إلى الخبرات المتقدمة.
وبالفعل، هناك منافع ملموسة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الحصول على الخبرات. فعلى سبيل المثال، يؤدي استخدام على الذكاء الاصطناعي إلى تحسين أداء العاملين الأقل خبرة والأقل مهارة في مراكز الاتصال. وتتراجع المزايا إلى مستوى لا يمكن اكتشافه بين العمال الأكثر خبرة. وتم توثيق نتائج مماثلة في المهام الكتابة، وتطوير البرمجيات، والاستشارات الإدارية، وغير ذلك من الجوانب الأخرى.
رابعًا، كما أظهر العقد الماضي، فإن الذكاء الاصطناعي قادر على تكييف الخدمات وإضفاء الطابع الشخصي عليها بسرعة وعلى نطاق واسع، سواء في جميع المواقف السلبية والإيجابية.
وإلى الآن، كان التركيز بشكل كبير على القدرة على إضفاء الطابع الشخصي على الرسائل التي تستهدف الإقناع السياسي والتسويقي بدقة. لكن الاستفادة الجيدة من إضفاء الطابع الشخصي يمكن أن تفتح آفاقاً لفرص جديدة بهدف توفير خدمات تعليم ورعاية صحية مخصصة حسب الطلب. وإذا تم توظيف إمكانات إضفاء الطابع الشخصي على المهام على نحو يؤدي إلى تحسين الجودة بشكل كبير، فمن الممكن أن يسهم ذلك في زيادة الإنتاجية في قطاعات الخدمات مثل الرعاية الصحية والتعليم، التي تأخرت عن بقية قطاعات الاقتصاد فيما يتعلق بزيادة الإنتاجية. وهذا الأمر قد يكون مهماً في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، حيث تزيد فرص العمل في قطاع الخدمات بسرعة أكبر مقارنة بالقطاعات الأخرى، خاصة في البيئات التي يتسم فيها التحول من وظيفة إلى وظيفة أخرى وخاصة من قطاع التصنيع إلى قطاعات أخرى بالضعف والصعوبة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يسهم إضفاء الطابع الشخصي في تحسين فاعلية التعلم والحصول على الرعاية الصحية في البلدان منخفضة الدخل وفي البيئات محدودة الموارد. كما يمكن أن يسهم استخدام الذكاء الاصطناعي في تعزيز إضفاء الطابع الشخصي على خدمات الرعاية الصحية والتعليم في زيادة الطلب على العاملين في مجال الرعاية الصحية والمعلمين، بدلاً من تقليله.
وقد أشار مسح أُجري في إطار تقرير التنمية البشرية لعام 2025 إلى أن الناس يتوقعون أن يؤدي الذكاء الاصطناعي دوراً أكثر تميزاً من مجرد زيادة الأتمتة. وعلى مستوى مختلف البلدان والمهن، يتوقع المجيبون على المسح حدوث الأتمتة، كما يتوقعون أيضا حدوث تجويد، ويذهب التحيز في اتجاه زيادة أعمال التجويد (انظر الشكل أدناه). وإجمالاً، من المتوقع أن يتأثر 4 من كل 10 من المجيبين على المسح أن بعملية التجويد والأتمتة التي يقوم بها الذكاء الاصطناعي، ولذا فإنهم يعتقدون أن الذكاء الاصطناعي سيغير وظائفهم الحالية بشكل كبير، كما يتوقعون أيضاً أن يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى خلق أدوار وظيفية جديدة غير موجودة حالياً.
ملاحظة: استنادا إلى بيانات مجمعة عن 21 بلدا. وتمثل كل نقطة النسب المئوية للمجيبين على المسح في مجموعة مهنية ببلد ما الذين يتوقعون أن تؤثر الأتمتة والتجويد من خلال الذكاء الاصطناعي على مهنهم. وتستخدم الفئات المهنية التالية: الفئة المهنية/الإدارية العليا، والماهرة، وغير الماهرة/شبه الماهرة، والخدمات، والأعمال المكتبية، والمزارع وغيرها. وتمثل المنطقة المظللة نسبة أعلى من المجيبين الذين يتوقعون التجويد بدرجة أكبر من الأتمتة.
المصدر: مكتب تقرير التنمية البشرية استنادا إلى بيانات من الدراسة الاستقصائية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي بشأن الذكاء الاصطناعي والتنمية البشرية.
يشير تقرير التنمية البشرية لعام 2025 إلى أن الذكاء الاصطناعي يتجاوز مجرد امتلاك أدوات رقمية أكثر قوة ستؤدي إلى مزيد من الأتمتة والتباين داخل البلدان وفيما بينها بصورة حتمية. ويدعو التقرير إلى إيجاد سبل جديدة لاستكشاف إمكانات الذكاء الاصطناعي للنهوض بالتنمية البشرية. وفيما يلي بعض الاحتمالات، على سبيل المثال وليس الحصر:
- يمكن الذكاء الاصطناعي أن يمكن الناس والمنظمات والمؤسسات والشركات ليس فقط من الوصول إلى المعلومات ولكن أيضا إلى المعرفة الفنية.
- هناك المزيد من الفرص لتحقيق آثار إيجابية غير مباشرة من استثمارات الذكاء الاصطناعي المنتشرة في مختلف قطاعات الاقتصاد. وفيما يبدو أن الاستثمار في الذكاء الاصطناعي يمكن أن يحدث آثار غير مباشرة ليس فقط على القطاع الذي يستخدمه، ولكن أيضا على مستوى القطاعات الأخرى، مما يتيح فرصا لتنويع النشاط الاقتصادي.
- يتيح الذكاء الاصطناعي فرصا جديدة لتوسيع حركة التجارة في الخدمات وزيادة إنتاجية هذا القطاع.
- يمكن للمرونة التي يتمتع بها الذكاء الاصطناعي أن تمكن الناس من البحث عن حلول لمشكلاتهم أو البحوث التي يقومون بها على نحو مصمم خصيصاً لملائمة السياقات المتنوعة والمحلية وكذلك الخصوصية الفريدة لفرادى الشركات، مع إمكانية تكرار ذلك.
- على عكس الكهرباء أو الإنترنت، لا يتطلب استخدام الذكاء الاصطناعي بنية تحتية مادية إضافية؛ ويمكن الوصول إليها على الفور من جانب من يستخدمون الإنترنت. أما الأشخاص الذين لا يستطيعون الاتصال بالإنترنت فهم لا يتمتعون بمزايا استخدام الذكاء الاصطناعي.
هناك العديد من المسارات المحتملة التي يستطيع الذكاء الاصطناعي من خلالها أن يعزز التنمية البشرية، وقد لا تنجح هذه المسارات التي تمت الإشارة إليها أعلاه. وإلى جانب هذه الإمكانات، هناك مخاطر تتمثل في أن تعميم استخدام الذكاء الاصطناعي لن يكون لصالح العمال. لكن ذلك سيتحدد بالخيارات على مستوى السياسات، وليس بفرص استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. وأياً ما كان في عباءة المستقبل وما يخبئه الغيب، يجب أن تسترشد سياسات التنمية بالطبيعة المميزة لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. والتصور العام بشأن ما يمكن أن يقوم به الذكاء الاصطناعي لتعزيز التنمية البشرية يمكن أن يكون مصدر إلهام للاتجاه العام الذي ينبغي اتباعه، مع الحفاظ على المرونة اللازمة للتكيف مع السياقات الوطنية والمحلية الفريدة، وذلك لإيجاد طرق تجعل الذكاء الاصطناعي يعمل لصالح الناس.
انضم إلى النقاش