للبنية التحتية المادية دور حيوي في مساندة التعافي فيما بعد زوال الجائحة، وفي إرساء الأسس الأطول أجلاً لتحقيق تنمية خضراء قادرة على الصمود وشاملة للجميع. وتُبرِز مجموعة متزايدة من الشواهد مساهمتها في طائفة واسعة من مؤشرات التنمية، ومنها التوظيف، والإنتاجية، والدخل، وعدم المساواة، والتجارة، وتكوين رأس المال.
ولكن في كثير من بلدان العالم النامية، لا تزال البنية التحتية غير كافية على نحو يثير القلق. فهناك نحو مليار شخص يعيشون على مبعدة أكثر من ميل عن طريق صالح للاستخدام في جميع المواسم، و760 مليون شخص محرومون من الحصول على الكهرباء في المنازل، ويعيش 450 مليون شخص خارج نطاق إشارة نظام اتصالات النطاق العريض. وحتى في الأماكن التي تكون فيها هذه الخدمات متاحة، فإنها غالباً ما تكون متقلبة وغير ميسورة التكلفة. وتؤدي التعطيلات التي تُسبِّبها البنية التحتية التي لا يمكن التعويل عليها إلى خسائر بمئات المليارات من الدولارات للأفراد والشركات سنويا، وتشهد أفقر بلدان العالم وأكثرها هشاشة أعلى تكلفة لخدمات اتصالات النطاق العريض، والكهرباء، والنقل.
وحتى قبل مجيء جائحة كورونا، كان الاستثمار في البنية التحتية أقل كثيرا من المستويات اللازمة لتحقيق الأهداف الإنمائية العالمية. ومنذ تفشِّي الجائحة، تعرض الإنفاق الاستثماري لمزيد من الضغوط. ومع أن كثيراً من الاقتصادات المتقدمة نفذت برامج تحفيز لدعم التعافي الاقتصادي، تضمَّنت في الغالب مكونات للبنية التحتية، فإن أشد بلدان العالم فقرا تفتقر إلى حيز المالية العامة الذي يتيح لها الإنفاق على تدابير من هذا القبيل. وسلَّط اجتماع قمة مجموعة السبع الأخير الضوء على هذه المسألة، إذ دعا الزعماء إلى تعزيز الجهود لتمويل تنمية البنية التحتية في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل.
لتعظيم مساهمة البنية التحتية في التعافي الاقتصادي العالمي، ودعم نمو أخضر شامل للجميع وقادر على الصمود في وجه الصدمات، يجب توجيه استثمارات إضافية إلى برامج فعَّالة. وفي هذا الصدد، تبرز أربعة ضرورات أساسية.
كبداية، يتطلب الوفاء بالأهداف المناخية العالمية موجة غير مسبوقة من الاستثمار في البنية التحتية الخضراء. فأنظمة الطاقة والنقل تسهم مجتمعةً بنحو ثلثي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية، وسيأتي قدرٌ كبيرٌ من الزيادة المتوقعة في الانبعاثات في السنوات القادمة من البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل. وتعد الاستثمارات في الطاقة المتجددة، وكفاءة استخدام الطاقة، والبنية التحتية لشحن المركبات الكهربائية، وأنظمة النقل الحضري المراعية لتقلبات المناخ، وسلاسل توريد الهيدروجين الأخضر الناشئة خيارات عالية المردود تساعد بشكل متزامن على خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وخلق الوظائف وفرص العمل. وبالتوازي مع هذه الاستثمارات الجديدة في البنية التحتية الخضراء، سيلزم تدبير رؤوس أموال إضافية لدعم تسريع إخراج محطات الكهرباء التي تعمل بالفحم من الخدمة.
ثانيا، يجب تصميم المشروعات الجديدة بحيث تعزز القدرة على الصمود الاقتصادي والاجتماعي في وجه الصدمات المناخية الشديدة وغيرها من الصدمات الخارجية. ويُسبِّب تغير المناخ بالفعل أضرارا بالغة في البنية التحتية الموجودة. فعلى سبيل المثال، في يناير/كانون الثاني، تسببت العاصفة الاستوائية آنا في تعطيل نحو نصف قدرات توليد الكهرباء الهزيلة في ملاوي. وفي الشهر التالي، أدَّى ثوران بركاني وطوفان التسونامي إلى فصل كابل الإنترنت البحري في تونغا.
تُقدَّر هذه الأضرار المباشرة بالبنية التحتية بالفعل بنحو 18 مليار دولار سنويا. ومن شأن تعزيز قدرة البنية التحتية على الصمود أن يزيد الاحتياجات الاستثمارية القائمة بضع نقاط مئوية، لكن المنافع المتوقعة تفوق التكاليف بمقدار أربعة أمثال.
وعلى الرغم من تجربة تونغا، تعد البنية التحتية الرقمية عاملا أساسيا لتعزيز قدرة المجتمعات على الصمود في وجه الأزمات. وفي أثناء جائحة كورونا، زاد عدد مستخدمي شبكة الإنترنت على مستوى العالم بواقع 800 مليون، وزادت حركة نقل البيانات في الاقتصادات الصاعدة بنسبة 25-50%، مع الزيادة المطردة في الأنشطة التي تُنفَّذ عبر الإنترنت. ومكَّنت التطبيقات الرقمية التي تدعم تقديم الخدمات عبر الإنترنت والعمل عن بعد الشركات والحكومات من مواصلة أنشطتها.
وتتمثل الضرورة الثالثة في الاستثمار في البنية التحتية المستدامة التي تُعزِّز الشمول الاجتماعي، وتعالج مختلف أبعاد عدم المساواة. فعلى الرغم من زيادة إمكانية الربط الرقمي في أثناء الجائحة، فإنه حتى عام 2021 كان 2.9 مليار شخص لا يزالون محرومين من وسائط الاتصال الإلكتروني، بينهم أكثر من 50% من سكان البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، وما يصل إلى 81% من سكان البلدان الأقل نموا . ولا تزال بعض أجزاء العالم تشهد أيضا تفاوتات كبيرة بين المناطق الحضرية والريفية وبين الرجال والنساء.
وقد أدَّت هذه الفجوة الرقمية إلى تفاوتات كبيرة في النواتج الإنمائية. ووفقاً لتقديرات اليونيسف، حال نقص التقنيات الملائمة دون مشاركة ما لا يقل عن 463 مليونا أو 31% من تلاميذ المدارس في أنحاء العالم في التعلم عن بعد عبر الوسائط الرقمية ووسائل البث المرئية والمسموعة في أثناء الجائحة. وفي منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، لم تزد نسبة الأطفال الذين أمكنهم الوصول إلى برامج التعلم عن بعد المعتمد على شبكة الإنترنت عن 6%.
وأخيرا، يعتمد الأثر الإجمالي للبنية التحتية المادية على التنمية على كيفية التنسيق بين الاستثمارات وتكملتها بتدابير داعمة على صعيد السياسات. وفي شتَّى أنحاء أفريقيا، تعد ممرات الطرق الإقليمية عاملاً أساسيا لتعزيز التبادل التجاري داخل القارة. فعلى سبيل المثال، قد يؤدي تطوير ممر طريق لاغوس إلى أبيدجان إلى منافع اقتصادية كبيرة للبلدان المطلة على ساحل غرب أفريقيا. ولكن سائق الشاحنة الذي يقوم بهذه الرحلة اليوم قد يضطر إلى قضاء 160 ساعة في المعابر الحدودية. ويمكن أن تتضاعف منافع تحديث الطرق إذا تم أيضا تبسيط الإجراءات الحدودية.
يمكن للأنواع المختلفة من البنية التحتية أن تعزز منافع المرافق الأخرى. ففي أنحاء المناطق الهشة في أرياف أفريقيا، حفَّزت الاستثمارات في الطرق الريفية على تحوُّل العمال من زراعة الكفاف إلى وظائف أعلى أجرا في قطاعات الصناعات التحويلية والخدمات. ولكن الأثر الاقتصادي للطرق قد يكون أضعاف ذلك في المجتمعات المحلية التي تكون فيها إمدادات الكهرباء متاحة أيضا.
وتنطوي البنية التحتية على كثير من المزايا التي تمكنها من الإسهام في التعافي فيما بعد زوال الجائحة، وكذلك في التنمية الخضراء القادرة على الصمود والشاملة للجميع، لاسيما في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل التي تشتد فيها الحاجة إلى الاستثمار . وسيكون تلبية هذه الحاجة تحديا جسيما لكنه تحدٍ يمكن تحويله إلى فرصة نافعة للجميع.
نُشِر هذا المقال أولا في Project Syndicate بتاريخ 4 أبريل/نيسان 2022.
انضم إلى النقاش