لقد مثل تفشي جائحة فيروس كورونا (كوفيد-19) خطراً داهماً على جدول أعمال التنمية المستدامة، إذ إن الأزمة لم تؤد إلى انتكاسة التقدّم الذي حققه العالم في القضاء على الفقر المدقع وتراجعه إلى الوراء لعدة سنوات فحسب، بل تطلبت أيضا زيادة كبيرة في الإنفاق العام من جانب الحكومات التي تسعى إلى حماية سكانها من أسوأ ما قد تحدثه الصدمة الاقتصادية من تداعيات. ومع استمرار الجهود الحثيثة لاحتواء الجائحة، تلوح في الأفق تحديات جديدة أمام البلدان النامية تتمثل في: استمرار أزمة المناخ، وتنامي احتياجات السكان الذين يشهدون تحوّلات ديموغرافية، والحاجة الماسة لاستئناف التقدّم نحو الحد من الفقر. وهذه المجموعة من التحديات تجعل لزاماً على الحكومات أن تجد سبلاً مسؤولة لزيادة الإنفاق.
ولذا، من الضروري مقابلة أي توسع في بنود الإنفاق العام في الميزانيات بزيادة مماثلة في الإيرادات. ولكن حتى قبل الجائحة، كان العديد من البلدان النامية يواجه مصاعب جمة لتوليد ما يكفي من الإيرادات الضريبية للوفاء باحتياجاتها الأساسية. ومن شأن خطر ارتفاع الدين العام في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، الذي كان على مسار تصاعدي حتى قبل الجائحة، أن يفاقم وضع المالية العامة لبلدان عدة.
إن زيادة الإيرادات، والقيام بذلك على نحو منصف، تتطلب تطبيق مجموعة من النُهُج الجديدة للسياسة والإدارة الضريبية. ويجري التصدي للكثير من هذه العوامل بنشاط من خلال الإصلاحات الضريبية الدولية الجارية، أو زيادة التركيز على فرض الضرائب على الثروات والممتلكات، أو رفع الكفاءة من خلال التحوّل الرقمي. ومع ذلك، فقد بات من الواضح بشكل متزايد أن الحل المتعلق بتعبئة المزيد من الإيرادات لا يمكن أن يعتمد فقط على توسيع الوعاء الضريبي، أو تيسير إجراءات السداد، بل يتطلب أيضاً أخذ العلاقة بين المكلف والإدارة الضريبية على محمل الجد.
ولمعالجة ذلك، يقدم التقرير المعنون "الابتكارات في مجال الامتثال الضريبي: بناء الثقة، وإدارة دفة السياسات، وتصميم الإصلاحات"، الصادر عن البنك الدولي بدعم من مؤسسة بيل وميليندا غيتس، طريقة جديدة لتنفيذ الإصلاح الضريبي عن طريق وضع إطار جديد ومتكامل لتدعيم الامتثال والإصلاح الضريبي، لا سيما في البلدان الأقل دخلاً.
ففي الماضي، كانت الإصلاحات الضريبية تتجه بشدة نحو تدعيم إنفاذ تحصيل الضرائب وتيسير الامتثال الضريبي. ويوضح هذا التقرير أن تحسين مصداقية النظام الضريبي لا يقل أهمية عن تدعيم الامتثال الضريبي. ويساعد بناء الثقة أيضاً على حشد الدعم العام للإصلاح الضريبي، مما يحدو بالمواطنين الذين كانت لديهم شكوك في البداية إلى المطالبة بإدخال التغييرات المطلوبة في النظام الضريبي لضمان أن كل فرد يدفع نصيبه العادل.
تشير الشواهد والأدلة القوية على مستوى البلدان والمناطق إلى أنه كلما كانت الثقة في الدولة قوية، زاد استعداد المواطنين لدفع الضرائب ودعم الإصلاح. إلا أن الأعباء الضريبية غير العادلة، والتعاملات التي تحيط بها الشكوك مع مسؤولي الضرائب، وضعف تحويل الإيرادات إلى خدمات تنعكس جميعها في تدني الثقة العامة في الأنظمة الضريبية الموجودة في البلدان النامية. على سبيل المثال، في معظم البلدان الأفريقية، يبدي أقل من نصف دافعي الضرائب ثقتهم في إدارات الضرائب، مع انخفاض مستويات الثقة إلى أقل من 30% في بعض البلدان. وفي منطقة أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي، ينخفض مستوى الثقة في الحكومة إلى 26% (كما في الأرجنتين) و17% (كما في البرازيل).
نهج شامل للإصلاح الضريبي
عندما يعرف المواطنون أن أموالهم تُنفق جيداً على الخدمات التي يريدونها بالفعل، فإنهم يصبحون أكثر استعداداً لدفع الضرائب. وعلى الرغم من ذلك، لم يجعل العديد من الحكومات بناء ثقة المواطنين ركيزة أساسية لاستراتيجيات الامتثال الضريبي التي تضعها. في الواقع، تشير استطلاعات التصورات السائدة إلى أن العديد من مواطني البلدان منخفضة الدخل، لا سيما في أفريقيا، يعتقدون أن الضرائب التي يدفعونها لا توجه إلى تحسين مستوى الخدمات العامة. ويُعد بناء الثقة وتعزيز المساءلة أمران أساسيان لتوفير بيئة مالية مستقرة ومستدامة ويمكن التنبؤ بها للبلدان، وأيضاً لتعزيز النمو الشامل للجميع.
إن الطريقة التي تتبعها الحكومات في تحصيل الضرائب جزء لا يتجزأ من كيفية تمويل نفقات الدولة. لكنها تحدد أيضاً نظرة دافعي الضرائب إلى مؤسسات بلدانهم، لأن دفع الضرائب يُعد نقطة رئيسية في التعاملات بين المواطنين والدولة. ويعني هذا أن الحكومات تواجه عواقب من منطلق ما يعتقده المواطنون بشأن إنفاق الضرائب التي يدفعونها، وما إذا كانوا يشعرون أنهم يتلقون معاملة عادلة من مسؤولي الضرائب، ومدى جودة التواصل معهم بشأن القوانين والقرارات الضريبية، ومدى عدالة النظام الضريبي.
إلا أنه على الرغم مما تحقق من نجاحات كبيرة، لم تكن الجهود المبذولة لتدعيم إنفاذ تحصيل الضرائب وتيسير الامتثال كافية لمواصلة تقديم أنظمة ضريبية أكثر فعالية وإنصافاً وخضوعاً للمساءلة. وبصفة عامة، تظل الضرائب المفروضة على الأثرياء غير فعالة إلى حد كبير في العديد من البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، حيث تقل نسبة الإيرادات المحصلة من ضرائب الدخل الشخصي عن نصف نسبة الإيرادات المماثلة في البلدان مرتفعة الدخل.
ويقتضي تحقيق تقدّم في هذا الاتجاه أن تكون الإصلاحات الضريبية مصممة على نحو أفضل بحيث تلائم الاحتياجات والظروف الخاصة بمختلف البلدان. وينبغي أيضا أن تراعي كذلك الظروف السياسية السائدة وأن تعالج مسألة بناء الثقة. وهذا النهج الأكثر شمولاً يمكنه أن يحقق تحسينات أكثر استدامة في الإيرادات على نحو يتسم بالعدالة والإنصاف وأن يؤدي إلى زيادة المنافع المتحققة للمواطنين.
وثمة أربعة عوامل دافعة - هي العدالة والإنصاف والمعاملة بالمثل والمساءلة - تساعد في تعزيز بناء الثقة في النظام الضريبي. ويتعين على القائمين بالإصلاح التركيز على كيفية تصميم استراتيجيات الإصلاح على نحو أكثر فعالية بما يناسب السياقات والقيود المحلية، مما يعكس القدرة التقنية المميزة التي يتمتع بها واضعو السياسات والتحديات السياسية التي يواجهونها عند العمل على بناء الثقة مع دافعي الضرائب.
وأخيراً، لا ينبغي النظر إلى تحصيل الإيرادات على أنه غاية في حد ذاته. فهو أمر لا يصبح مرغوباً على مستوى المجتمع إلا إذا أدى إلى إنفاق فعال له مردود من حيث الإنتاج. ومن شأن اعتماد الإطار الموضح في تقرير "الابتكارات في مجال الامتثال الضريبي" أن يساعد في تحويل النمط السائد من فرض المزيد من الضرائب إلى تحسين طريقة فرض الضرائب.
انضم إلى النقاش