كثيراً ما يتكلم الناس مع أنفسهم. وكان ذلك يُعد في السابق سمة مميزة للأنانية والنرجسية. غير أن بحوث العلوم الاجتماعية تشير إلى أن هذا قد يكون طريقة قوية لتحفيز أنفسنا وإثارة حماستها.
هل سبق وأن تحدثت إلى نفسك؟ وهل تتحدث إلى نفسك بضمير الغائب؟.
أكثرنا يفعل ذلك، لكننا ربما لم نتوقف لنفكر في السبب الذي يجعلنا نفعله.
في عام 2013، ظهرت مالالا يوسفزاي في برنامج "ديلي شو" وسألها جون ستيوارت عن الوقت الذي أدركت فيه أن طالبان تستهدفها. وتبدأ هي الإجابة بضمير المتكلم لكنها تتحول بعد برهة إلى ضمير الغائب، قائلة "عندما كنت سنة 2012 مع أبي وجاءت إحداهن وقالت لنا ’هل رأيت على جوجل إذا بحثت عن اسمك أن طالبان تهددك؟’ لم استطع أن أصدق. قلت ،لا، هذا ليس صحيحا.، وحتى بعد أن رأينا بأنفسنا، لم أشعر بالقلق على نفسي لهذه الدرجة. كنت قلقة على أبي لأننا كنا نظن أن طالبان ليسوا بهذه القسوة بحيث يقتلون طفلة لأنني كنت في الرابعة عشرة من عمرى آنذاك. ولكن بعدها بدأت أفكر في الأمر. اعتدت أن أفكر في احتمال أن يأتي أحد أفراد طالبان ويقتلني. ولكنى قلت بعدها ’إذا جاء، ماذا ستفعلين يا مالالا؟’ وكنت أرد على نفسي ’مالالا، أمسكي بحذاء واضربيه به.’ ولكني بعدها قلت ’إذا ضربت أحد أفراد طالبان بحذاء فعندئذ لن يكون هناك فرق بينك وبينهم.’ وقد قام إيثان كروس، وهو باحث نفسي في جامعة ميشيغان، بدراسة التحدث إلى النفس، تلك الأحاديث الحوارية التي تجريها مع أنفسنا عن أنفسنا، وهو يرى أن حديثنا إلى أنفسنا أو عن أنفسنا بضمير الغائب ربما يكون أحد طرق مساعدة أنفسنا على التكيف.
وفي دراسة نُشرت عام 2014 (e) في مجلة الشخصية وعلم النفس الاجتماعي (Journal of Personality and Social Psychology)، استكشف كروس وفريق من الباحثين كيفية استخدام الناس أساليب شتى في التحدث مع أنفسهم أثناء القيام بمهام تشكل ضغطا على المرء في سبع تجارب ضمت قرابة 600 مشارك. وفي اثنتين من تلك التجارب، طلب الباحثون من المشاركين أن يلقوا كلمة دون الاستعانة بكثير من الإعداد أو المساعدة. فارتجال الكلام العلني، كما يقول كروس، أحد أقوى سبل إحداث ضغط وتوتر في بيئة تخضع للضبط دون تجاوز الحدود الأخلاقية. وكذلك طُلب من كل من المشاركين أن يتحدث إلى نفسه قبل إلقاء كلمته وبعدها وأن يمعن التفكير في أحاسيسه فيما يحيط بالكلمة.
ومن أجل مقارنة الأثر اللغوي في الحديث إلى النفس، قام الباحثون بتقسيم المشاركين إلى مجموعتين: الأولى من يتكلمون بضمير المتكلم والأخرى من يتكلمون بغيره. واستخدم أعضاء المجموعة الأولى الضمير "أنا" كاستهلال يقود تأملاتهم. وسجلوا مشاعر مثل: "أنا أشعر بالقلق بشأن القيام بعرض تقديمي لأحد العملاء في العمل. أخشى أن أبدو غير محترف وقليل المعرفة. وأشعر بالتوتر لاحتمال أن يسألوني أسئلة لا أعرف الإجابة عليها."
وكذلك قام أعضاء مجموعة المتكلمين بغير ضمير المتكلم بالتأمل في مشاعرهم، لكنهم تجنبوا الضمير أنا. وسجلوا مشاعر مثل: "إنك تقلق أكثر مما ينبغي بشأن ما يفكر به الآخرون. لابد لك من التركيز على ما ينبغي عمله، وما تستطيع فعله لتنفيذه. مجرد وجود أناس آخرين بالمكان لا يغير شيئاً مما يلزم أن تفعله. ركز على نفسك، وستكون بخير."
ولاحظ الباحثون وجود فروق جلية بين المجموعتين. فأعضاء المجموعة الأولى كانوا أشد على أنفسهم وعبروا عن مزيد من القلق، والخجل، والشك بشأن كلمتهم—سواء قبل إلقائها أو بعده. أما المجموعة التي تحدثت بغير ضمير المتكلم فقد انجذبت أكثر ناحية الرسائل الأكثر إيجابية. ونتيجةً لذلك، ألقى أولئك الذين تحدثوا بغير الضمير أنا كلمات أفضل، وبقدر أكبر من اليسر والارتياح، من المشاركين الذين ضمتهم المجموعة الأولى. وأفرزت تجربة الحديث العلني نتائج تتسق مع التجارب الأخرى التي شملتها الدراسة. فبشكل عام، أصبح أعضاء مجموعة المتكلمين بالضمير أنا أكثر ضيقاً بالمواقف التي تتسم بالضغط، وجاء أداؤهم أسوأ في تلك المواقف ووجدوا صعوبة أشد في استعادة توازنهم. غير أن المشاركين ضمن مجموعة المتكلمين بغير الضمير أنا فقد اتخذوا موقفاً أكثر ميلاً لإبداء القدرة على القيام بالمهمة وأظهروا سيطرة على أنفسهم بدرجة أفضل وهم تحت الضغط.
ومن النظريات التي تفسر سبب نجاح ذلك أن الناس عندما تتكلم بضمير الغائب تستطيع أن تنأى بأنفسها عن الموقف وما يتصل به من مشاعر. فالحديث إلى النفس بضمير الغائب يسمح للأفراد بأن يروا أنفسهم – ما هم عليه وما يفعلونه – بطريقة متمايزة عن المشاعر التي يحسونها، وبالتالي تتيح لهم أن يكونوا أكثر موضوعية وتعزز الانضباط الذاتي.
والتحدث إلى النفس بضمير الغائب قد يساعدنا أيضاً في توجيه سلوكياتنا، لا مشاعرنا وحدها. فقد وجد انطونيس هاتزيجورجيادس، وهو أستاذ مساعد بقسم التربية البدنية وعلوم الرياضة في جامعة ثيسالي، أن التحدث إلى النفس بصيغة الأمر، مثل "الكتفين للخلف" أو "أبق الذراع اليسرى مستقيمة" يفلح كثيراً في تحسين أسلوب أداء اللاعبين الرياضيين. وكذلك أظهرت تجارب عدة أجرتها فانيسا باتريك، وهي أستاذة تسويق بجامعة هيوستون، أن من يقولون "لا أفعل" في مقاومة الإغراء يفلحون أكثر ولزمن أطول من أولئك الذين يقولون "لا أستطيع". فكلمة "لا أستطيع" تبعث برسالة مفادها محدودية القدرة والعجز في حين أن كلمة "لا أفعل" تشير إلى وجود اختيار وسيطرة. وهي تقارن بين عبارتي "لا أستطيع تفويت التدريب" في مقابل "أنا لا أفوت التدريب" أو "لا أستطيع شراء هذا الحذاء قبل يوم تسلم الرواتب" في مقابل "أنا لا أشترى أحذية قبل يوم تسلم الرواتب"، وترى أن الأفراد يأخذون بالبديل الأخير لكي يوحوا لأنفسهم بأن لديهم الكثير من الكفاءة الذاتية.
وهكذا، إذا أردت أن يكون أداؤك أفضل وأن تحقق أهدافك بقدر أكبر من اليسر فمن الأفضل لك أن تنحي جانباً ما يداخلك من أفكار الشك أو الإهانة ليحل محلها الحديث المشجع إلى النفس. ومن شأن استخدام ضمير الغائب في الكلام والمخاطبة الفعالة التي توحي بأنك مسيطر أن تتمكن من مواجهة الشدائد والتحديات بمزيد من القوة في خطاك. أنت أيضاً، مثل مالالا، يمكنك أن تكون المشجع لنفسك والمستشار لتوجهاتك.
برنامج "ديلي شو" – مقابلة مطولة – مالالا يوسفزاي.
انضم إلى النقاش