نشر في أصوات

تحويل تقلبات النفط إلى استقرار: مدى فاعلية سياسة المالية العامة في دول مجلس التعاون الخليجي

الصفحة متوفرة باللغة:
تحويل تقلبات النفط إلى استقرار: مدى فاعلية سياسة المالية العامة في دول مجلس التعاون الخليجي كيف يمكن لسياسة المالية العامة المعاكسة للدورات الاقتصادية أن تسهم في تحقيق استقرار اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي في ظل تقلبات أسعار النفط؟ | © Shutterstock.com

تُعد سياسة المالية العامة إحدى الأدوات الرئيسية التي تستخدمها الحكومات لضبط جوانب الاقتصاد الكلي، وتتميز هذه السياسة بأهداف واسعة النطاق، حيث تشمل جميع الإيرادات والمصروفات الحكومية. غير أن تعزيز استقرار الاقتصاد الكلي يأتي على رأس أهدافها الأساسية، وهو ما يسهم بدوره في دفع عجلة النمو طويل الأجل. وفي السيناريو الأمثل، نجد أن إجمالي الناتج المحلي يأخذ اتجاهاً تصاعدياً مستقراً. ولكن الواقع غير ذلك، حيث تمر الاقتصادات بفترات توسع وركود (دورات أنشطة الأعمال) تؤدي إلى عدم الاستقرار. ويمكن لسياسة المالية العامة أن تسهم في التخفيف من هذه الدورات بجعل فترات الركود أقل حدة وفترات التوسع أكثر استدامة. فعلى سبيل المثال، عندما تنخفض أنشطة القطاع الخاص خلال فترات الركود، يمكن للحكومة زيادة الإنفاق لتعزيز الطلب وتخفيف الآثار السلبية التي تنتج عنها. ويُعرف هذا النهج باسم سياسة المالية العامة المعاكسة للدورات الاقتصادية.

تواجه اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي مشكلة رئيسية تتعلق بسياسة المالية العامة، ألا وهي كيفية تحقيق استقرار النمو عندما تتفاقم دورات أنشطة الأعمال الناتجة عن تقلبات أسعار النفط. وبما أن الإنفاق الحكومي يشكل نسبة كبيرة من إجمالي الناتج المحلي لهذه الدول، وتتقيد سياستها النقدية بالتزامها بربط سعر الصرف بالدولار الأمريكي، تظل سياسة المالية العامة الأداة الرئيسية لتحقيق استقرار الاقتصاد الكلي. ومن ثم، يحتاج واضعو السياسات إلى إجابات واضحة على سؤالين اثنين هما:

  1. هل تُعتبر سياسة المالية العامة في دول الخليج معاكسة للدورة الاقتصادية في الواقع العملي؟
  2. ما مدى تأثير سياسة المالية العامة على إجمالي الناتج المحلي غير الهيدروكربوني، خصوصاً في فترات الركود التي تشتد فيها الحاجة إلى المساندة؟

أجرينا سلسلة من الدراسات للإجابة على هذين السؤالين الجوهريين المتعلقين بدول مجلس التعاون. وكان من بينها ورقة بحثية أعدها بوجيتيك وناهر ونُشرت ضمن عدد ديسمبر/كانون الأول 2024 من تقرير أحدث المستجدات الاقتصادية لمنطقة الخليج، شملت تقييماً لمدى تطبيق دول المجلس لسياسة مالية عامة معاكسة للدورة الاقتصادية. وتتجلى هذه السياسة في الارتباط السلبي بين المكون الدوري لنمو إجمالي الناتج المحلي والمكون الدوري للإنفاق الحكومي، وأيضاً في ارتباط إيجابي بين المكونات الدورية لنمو إجمالي الناتج المحلي والإيرادات الحكومية. وتُظهر البيانات هذه العلاقات في معظم اقتصادات مجلس التعاون بصورة دقيقة. ويلخص الشكل 1 النتائج التي شملتها هذه الورقة البحثية.

 

الشكل 1: سياسة المالية العامة بدول مجلس التعاون الخليجي متوافقة مع مبادئ السياسة المالية العامة المعاكسة للدورات الاقتصادية.

Image

المصدر: تقرير أحدث المستجدات الاقتصادية لمنطقة الخليج، ديسمبر/كانون الأول 2024 (الصفحة 23)

إيضاح: تُحسب دورية الموازنة باعتبارها معامل الارتباط بين المكون الدوري للوغاريتم إجمالي الناتج المحلي الحقيقي (بالأسعار الثابتة للعملة المحلية) والمكون الدوري لمتغير سياسة المالية العامة المعني. ويتطلب نهج المالية العامة المعاكس للدورة الاقتصادية إنفاقًا معاكسًا للدورة الاقتصادية (معامل سلبي) وإيرادات مسايرة للدورة الاقتصادية (معامل موجب) فيما يتعلق بدورة أنشطة الأعمال. وتشمل العينة 184 بلداً.

يتعلق السؤال الثاني بمدى قوة تأثير سياسة المالية العامة على الناتج. وهنا تقوم ورقة بحثية حديثة تضمنها عدد يونيو/حزيران 2025 من تقرير أحدث المستجدات الاقتصادية لمنطقة الخليج بتقدير حجم المضاعفات المالية لدول مجلس التعاون. وفي الدراسات والبحوث الخاصة بالاقتصاد الكلي، فإن مضاعف المالية العامة يعني تأثير أداة مالية معينة (مثل الإنفاق الاستهلاكي الحكومي) على إجمالي الناتج المحلي. فعلى سبيل المثال، يعني مضاعف قدره 0.1 للإنفاق الاستهلاكي الحكومي أن كل دولار ينفق في هذا الاستهلاك يرتبط بزيادة قدرها 0.1 دولار في إجمالي الناتج المحلي غير الهيدروكربوني.

وتشير النتائج التي توصلنا إليها إلى أن مضاعفات الإنفاق في اقتصادات دول مجلس التعاون تُعتبر إيجابية وذات دلالة إحصائية، حيث تتراوح عادةً بين 0.1 و0.4 (الشكل 2). وبعبارة أخرى، يسهم الإنفاق الحكومي الاستهلاكي في تعزيز نمو إجمالي الناتج المحلي غير الهيدروكربوني ضمن النطاق المذكور، وإن تفاوت حجم هذا الإنفاق من بلد إلى آخر.

الشكل 2: تقديرات مضاعفات المالية العامة للإنفاق الحكومي في دول مجلس التعاون الخليجي

Image

ومن أجل فهم الآثار المترتبة على سياسة تحقيق الاستقرار، قمنا بتقسيم العينة إلى فترات توسع وفترات ركود لاختبار ما إذا كانت المضاعفات تعتمد على حالة الاقتصاد. وهذا الاعتماد على حالة الاقتصاد له صلة بالسياسات، فعندما يكون هناك تراجع في الاقتصاد خلال فترات الهبوط، يمكن للمرء أن يتوقع أن تكون سياسة المالية العامة أكثر فاعلية وتأثيراً.

وهذا بالضبط هو ما توصلنا إليه: في دول مجلس التعاون، تكون المضاعفات أكبر بشكل ملحوظ خلال فترات الركود مقارنة بفترات التوسع، مما يوفر مساندة أكثر فاعلية للناتج في الأوقات التي تشهد تراجعاً في النشاط الاقتصادي (الشكل 3). أما في فترات التوسع، فيكون المضاعف التقديري قريباً من الصفر، مما يشير إلى أن الاستهلاك الحكومي الإضافي يكون له تأثير ضئيل على إجمالي الناتج المحلي غير الهيدروكربوني.

 

الشكل 3: تختلف مضاعفات المالية العامة للإنفاق الاستهلاكي الحكومي تبعًا لحالة الاقتصاد

Image

وعند النظر إلى هذه النتائج مجتمعة، فإنها تكشف عن نقاط القوة التي تتميز بها سياسة المالية العامة في دول مجلس التعاون الخليجي بالإضافة إلى الحدود المقيدة لها. فعلى الجانب الإيجابي، تعمل سياسة المالية العامة في معظم اقتصادات دول المجلس بشكل معاكس للدورة الاقتصادية، حيث تكون مضاعفات الإنفاق إيجابية في المتوسط وتزداد فاعليتها في فترات الركود، وهي الأوقات التي يصبح فيها تحقيق الاستقرار أولويةً قصوى. غير أن متوسط المضاعفات يظل متواضعاً مقارنة بما سُجِّل في بعض الاقتصادات الأخرى ذات الدخل المرتفع، ناهيك عن أن تأثير الإنفاق خلال فترات التوسع يظل محدوداً. وتؤكد هذه النتائج على أهمية توقيت السياسات وكيفية صياغتها، فالمردود يكون أعلى عندما تُنفّذ حزم التحفيز  المالي خلال فترات التراجع الاقتصادي، كما أن مكونات الإنفاق لها دور محوري لتحقيق الفاعلية.

وتهدف مثل هذه الجهود البحثية إلى المساعدة في صياغة سياسات المالية العامة بدول مجلس التعاون الخليجي على نحو أفضل. ويمكن في المستقبل، ومن خلال دراسات تقوم على أسس دقيقة، تحديد فئات الإنفاق وآليات التنفيذ التي تسهم في تحقيق أكبر أثر على النمو وتوفير أفضل المنافع المرتبطة بتعزيز قدرة اقتصادات دول المجلس على الصمود.


جاسمين شاكري

مديرة قطاع الممارسات العالمية للاقتصاد الكلي والتجارة والاستثمار، البنك الدولي

محمد خداداد شذة

كبير الاقتصاديين في قطاع السياسة الاقتصادية في البنك الدولي

انضم إلى النقاش

محتوى هذا الحقل سيظل خاصاً بك ولن يتم عرضه للعامة
الأحرف المتبقية: 1000