نشر في أصوات

توقف روسيا عن سداد ديونها قد يفاقم المخاطر في عالم يسوده التوتر

الصفحة متوفرة باللغة:
Photo: Carmen Reinhart/World Bank Photo: Carmen Reinhart/World Bank

يواجه الاقتصاد العالمي اليوم مجموعة من التحديات التي نادراً ما شهد العالم مثيلاً لها. وتؤدي الحرب التي تشنها روسيا ضد أوكرانيا إلى تراكم مجموعة من المخاطر الجديدة بالإضافة إلى المخاطر الموجودة بالفعل  التي نجمت عن جائحة لا تحدث إلا مرة واحدة في القرن - أو تفاقمها. ويحتل ارتفاع معدل التضخم العالمي وتفاوت مسارات تعافي الاقتصادات من حالة الانهيار التي شهدتها في عام 2020، والتي عمقت الفجوة بين البلدان الغنية والفقيرة، موضع الصدارة في القائمة الطويلة للمخاطر التي يتسم بها عام 2022.

والحقيقة أن هذه الحرب تذكي بالفعل هذا التضخم العالمي. وكانت آثارها الاقتصادية المباشرة ملموسة بقوة في أسواق السلع الأولية. وتمثلت في صدمة العرض التي تستدعي إلى الذاكرة صدمات النفط في حقبة السبعينيات من القرن الماضي  - باستثناء أن هذه المرة تنطوي أيضاً على ارتفاع حاد في أسعار المواد الغذائية. ونحن نعلم أن جائحة كورونا قد ألحقت ضرراً بالغاً بسلاسل الإمداد العالمية، وأدت إلى ارتفاع حاد في تكاليف عمليات النقل. وقد دعم تدخل الحكومات والبنوك المركزية الطلب الكلي، بيد أنه لم يكن له أثر كبير في إصلاح أوضاع العرض الكلي. وأدى هذا الخلل إلى زيادة التكاليف ومهد الطريق لعودة حالة التضخم العالمي. بالإضافة إلى ذلك، أدت الاضطرابات الناجمة عن الحرب إلى مزيد من الإضرار بالروابط التجارية وتوقف الإنتاج الزراعي في بلدين من أكبر المنتجين الزراعيين على مستوى العالم. وستقع أشد تداعيات هذا الأمر وطأة على كاهل البلدان النامية والفقراء، الذين سيشهدون زيادة أعلى بكثير في أسعار المواد الغذائية والسلع الأساسية الأخرى. ومع ذلك، لا ينبغي أيضاً الاستهانة بالآثار السلبية للحرب على الاقتصادات المتقدمة في أوروبا.

يضاف إلى هذه المشكلة التي كانت قائمة من قبل مشكلة جديدة - ألا وهي التداعيات المحتمل أن تلحق بالأسواق المالية في حالة توقف روسيا عن سداد ديونها في مرحلة ما. في الوضع الراهن، لا يقدم الماضي القريب بالضرورة خريطة طريق جيدة، لأن تداعيات انهيار بنك ليمان براذرز وسوق الإسكان في عام 2008 أصابت إلى حد كبير الاقتصادات المتقدمة. أما في هذه المرة، فمن المرجح أن تكون العديد من الأسواق الصاعدة والبلدان النامية هي الأكثر تضرراً من هذه الأوضاع. وغالباً ما يتم التقليل من أهمية هذه التأثيرات لأنها تحدث في بلدان لا تكون موضع اهتمام ولا تُعد ذات أهمية للنظام المالي العالمي. وهذه البلدان تقف على طرفي النقيض مع البلدان التي تُعد أكبر من أن تفشل.

فيما يتعلق بالتحدي الأول، كان معدل التضخم، قبل الحرب، بالفعل أعلى بكثير وأكثر حِدة وأوسع نطاقاً مما اعتقدت البنوك المركزية الرئيسية في البداية. وفي أكثر من نصف الاقتصادات المتقدمة، تجاوز معدل التضخم على مدار 12 شهراً حتى فبراير/شباط 2022 نسبة 5%. وشهد أكثر من 70% من الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية تضخماً عند هذا المستوى أو أعلى منه، أي أكثر من ضعف النسبة قبل تفشي فيروس كورونا.

ويشهد معدل التضخم في أسعار المواد الغذائية تزايداً كبيراً. كما أن مخاطر عودة ظهور أزمات غذائية في مناطق كثيرة من العالم وما يصاحبها من اضطرابات اجتماعية تلوح في الأفق على نحو كبير، وهو أمر لا ينبغي الاستهانة به.  فقد شهد نحو 80% من اقتصادات الأسواق الصاعدة تضخماً في أسعار المواد الغذائية تجاوز نسبة التضخم في العام الذي سبق الحرب التي بلغت 5%.  بالإضافة إلى ذلك، من المرجح أن تستمر آثار الحرب، إذ سيواصل الصراع الدائر حالياً التسبب في تعطيل دورات زراعة المواد الغذائية وإنتاجها ونقلها، مما يزيد من تفاقم الوضع السيئ بالفعل. وما التضخم إلا ضريبة تنازلية، ويُعد تضخم أسعار المواد الغذائية أكثر من ذلك. ففي البلدان الأقل دخلاً، كما هو حال الأسر الأفقر، يمثل الإنفاق على المواد الغذائية والطاقة نسبة أكبر بكثير من الإنفاق، وتستنزف الأسعار المرتفعة نسبة أكبر بكثير من دخل تلك البلدان والأسر. وفي العديد من البلدان النامية، من المتوقع أن تتدهور الموارد المالية الحكومية مع اشتداد الضغط من أجل زيادة دعم المواد الغذائية والوقود.

وفيما يتعلق بالتحدي الثاني، فإن احتمال توقف روسيا عن سداد ديونها السيادية الخارجية بسبب العقوبات قد يؤدي إلى تجمع المخاطر حول ما لا نراه ولا يمكننا تحديد مقداره. وبينما تركز الأسواق على الديون السيادية، تواجه الشركات الروسية أيضاً احتمال التوقف عن سداد ديونها. وإلى يومنا هذا، لا تزال التداعيات المالية محدودة، بيد أنه من السابق لأوانه إعلان النصر على تلك الجبهة. ووفقاً لما ذكره بنك التسويات الدولية، فإن تعرض البنوك الأوروبية للمخاطر التي تنطوي عليها الديون السيادية الروسية محدود، إلا أنه من الصعوبة بمكان التأكد من مدى تعرض المؤسسات غير المصرفية لهذه المخاطر. وغالباً ما لا تتكشف طبيعة الروابط بين المؤسسات غير المصرفية إلا في وقت التوقف عن السداد. وأدت التقلبات التي شهدتها الأسواق بسبب توقف روسيا عن سداد ديونها في صيف عام 1998 إلى انهيار صندوق إدارة رؤوس أموال طويلة الأجل - وهو صندوق التحوط الأمريكي - ودفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى التدخل لتهدئة الأوضاع في أسواق رأس المال الدولية.

وربما تقع العواقب المالية المترتبة على توقف روسيا عن سداد ديونها على نحو غير متناسب على كاهل الأسواق الصاعدة والبلدان النامية، حيث كان التعافي الاقتصادي من جائحة كورونا مخيباً للآمال في معظم الأحوال.  فالكثير من هذه الأسواق والبلدان لم تتعاف بعد من الجائحة. والبلدان النامية تجد بالفعل أنه يصعب عليها يوماً بعد يوم سداد ديونها. واليوم، فإن نحو 60% من أكثر بلدان العالم فقراً المؤهلة للاستفادة من مبادرة تعليق مدفوعات خدمة الدين التي انتهى العمل بها العام الماضي تواجه مرحلة المديونية الحرجة، أو أنها معرضة بشدة لها. وسوف تجعل زيادة عدد المستثمرين الذين يحجمون عن تحمل المخاطرة بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الفائدة الدولية جذب التمويل الجديد وخدمة الديون الحالية أكثر تكلفة. ووفقاً لما ورد في إحصاءات الديون الدولية الصادرة عن البنك الدولي، تضاعف تقريباً إجمالي خدمة الدين الخارجي قياساً على الصادرات في الفترة من عام 2010 إلى عام 2020. وحدثت هذه الزيادة في فترة الانخفاض الاستثنائي الذي شهدته أسعار الفائدة الدولية.

إن تعرض البلدان النامية لأزمة ليس قدراً محتوماً، ولكن المخاطر تتراكم بالفعل. الحقيقة أنه ما من وقت جيد لنشوب أي حرب. إلا أن هذه الحرب تأتي في وقت تظهر فيه بعض التصدعات الصارخة في الاقتصاد العالمي.

نُشِر هذا المقال أولا في BARRON'S بتاريخ 1 أبريل/نيسان 2022.


بقلم

كارمن راينهارت

النائب الأول للرئيس ورئيسة الخبراء الاقتصاديين بمجموعة البنك الدولي

انضم إلى النقاش

محتوى هذا الحقل سيظل خاصاً بك ولن يتم عرضه للعامة
الأحرف المتبقية: 1000