بعد مضيّ أكثر من ثلاثة أشهر على رفع الحجر الصحي العام وفي حين لا تزال مؤشرات العدوى في تونس في ارتفاع، يستعد التلاميذ لاستئناف الدروس. وهنا يطرح السؤال الآتي : أي عودة مدرسية تنتظرهم؟ ما هي الظروف الصحية المزمع توفيرها للتلاميذ والمربين والعملة؟ كيف يمكن التأكد من أن الجائحة لن تزيد من تدهور وضعية منظومة تربوية مهترئة أصلا وكيف نجعل من هذه الأزمة التي لم يسبق لها مثيل فرصة لإحداث التغيير؟
لاحظت أن الأسابيع الفارطة كانت مسرحا لمناقشات ومفاوضات مكثفة حول الظروف المحيطة بعودة مدرسية ينتظر أن تكون ''خارقة للعادة''. ثم أضفى الحوار الى استئناف الدروس بين يومي 15 و19 سبتمبر، مع تناوب التلاميذ على المدارس يوما بعد يوم، لتفادي تجاوز عتبة ال 18 تلميذ في القسم الواحد. كما تقرر التخفيف من محتوى البرامج مع الحرص على الابقاء على المضامين المعرفية الأساسية وتخصيص الأسابيع الأولي لبرنامج التحيين الأكاديمي، الى جانب التقصير من مدة العطل.
وهنا، لا بدّ من أن نتساءل عن مدى استجابة مثل هذه الحلول لانتظارات التلاميذ وأولياءهم. اذ تبين نتائج سبر آراء أجري في شهر أوت أن 79% من الأولياء عبروا عن عدم رضاهم عن العام الدراسي المنقضي في حين اعتبره 41% من الأولياء غير مكتمل. وقد وصف 30% من المستجوبين السنة الدراسية المنقضية بالسنة الضائعة واعتبرها 285 آخرون كارثية.
وتأتي نتائج سبر الآراء هذا لتأكد نتائج استطلاع آخر أجراه المعهد الوطني للإحصاء في شهر ماي الماضي، عبر الهاتف وبالتعاون مع البنك الدولي، حيث أفاد 61% من الأسر التي شملها الاستبيان بأن أطفالهم لم يشاركوا في أي نشاط تعليمي خلال الأسبوع السابق للمسح و أن السبب الرئيسي لذلك يعود لعدم اقتراح أي تعليم عن بعد عليهم (33%)، يليه عدم الاهتمام بالقضايا التربوية داخل الأسرة (22.5%)، ثم قلة التواصل مع المعلمين (18%) وأخيرًا، عدم توفر المعدات اللازمة لذلك في المنزل (11% من الأسر)، ليجد العديد من التلاميذ أنفسهم متروكين لحالهم.
ويتعلق السؤال الذي يجب طرحه في هذا السياق بمدى تأثير التدابير المعلن عنها، لاسيما في علاقة بالتوقيت التناوبي الجديد على العملية التعليمية ومخاطر الانقطاع عن الدراسة. هل يعتبر التلاميذ الأكثر هشاشة – أي أولئك الذين يعجز أولياءهم عن تحمل كلفة الدروس الخصوصية أو الذين يفتقرون الى امكانية النفاذ للموارد البيداغوجية أو تلاميذ المناطق المهمشة - هم الأكثر عرضة لمثل هذه المخاطر؟ وما هي التدابير التي يجب اتخاذها لفائدة هذه الفئة من المواطنين؟
وللتذكير، فأنه حتى وقبل تفشي جائحة الكوفيد 19، تعددت المؤشرات الدالة على تأزم قطاع التربية والتعليم في تونس. وأكبر دليل على ذلك هو التدهور المتواصل لنتائج التعلم في تونس (سنة 2015، كانت تونس تحتل المرتبة 65 من مجموع 70 في تصنيف "بيزا " للأنظمة التربوية). أما اليوم، فنجد أن حوالي ثلثي الأطفال في سن العاشرة غير قادرين على قراءة وفهم نص مناسب لأعمارهم. وهنا، يمكن الجزم بأن إخلالات المنظومة التعليمية تقصي آلاف الشباب من اكتساب المهارات الأساسية التي من شأنها أن تمكنهم من الاندماج في الحياة العملية والتألق كأفراد ومواطنين. وغالبا ما يؤدي ذلك أيضًا إلى افراغ الاقتصاد من قدرته التنافسية والإنتاجية، كما يتضح ذلك من خلال مؤشر رأس المال البشري المنشور في 2018 والذي يقدر أن انتاجية الطفل التونسي المولود اليوم لن تفوق 51٪ من إمكاناته، بسبب تدني جودة الأنظمة التعليمية والصحية.
يتطلب الوضع الحالي اتخاذ جملة من التدابير الواسعة النطاق. ويتعلق الأمر، في مرحلة أولى، بمواجهة المتطلبات الصحية والحد من مخاطر الانقطاع المدرسي، لا سيما بإطلاق حملات تواصل مع الأسر المعوزة واتخاذ التدابير الإضافية لمزيد دعمها، علاوة على ما تم اقراره سابقا. وتجمع غالبية آراء الأولياء المستجوبين على ضرورة ضمان عودة مدرسية جيدة (36%)، مع توفير الإجراءات الوقائية اللازمة للحد من مخاطر العدوى وعواقبها (19%). كما تجدر الاشارة الى أهمية دعم و مرافقة المربين المطالبين ببذل جهد إضافي لصالح التلاميذ ذوي الوضعيات الصعبة، الى جانب ضرورة إرساء عملية تقييمية مستمرة لقياس مكتسبات التلاميذ على مدار السنة. ومن المنتظر أن تركز هذه الجهود بشكل خاص على المرحلة الأساسية المتعلقة بالإلمام بالقراءة والكتابة والتي ُتبنى من خلالها أسس التعلم.
وللتصدي لأزمة التعلم، أود التذكير بأن وزارة التربية لديها الموارد المالية الكافية، اذ أقدم العديد من المانحين، من بينهم البنك الدولي، على وضع جملة من التمويلات على ذمة الحكومة التونسية للقيام بمشاريع لصالح قطاع التربية، وذلك حتى قبل تفشي جائحة الكوفيد 19. ومن المؤسف أنه لم يقع الحرص على الإسراع في صرف هذه الإعتمادات وتنفيذ هذه المشاريع. بل ومنذ تفشي جائحة الكوفيد 19، زادت الأمور بطئا وتوقف تنفيذ عدد من الأنشطة. ففي شهر جوان المنقضي، تم التقليص من موارد مشروع تعزيز أسس التعلم في تونس(PREFAT) الممول من البنك الدولي بمقدار ربع موارده بسبب عدم القدرة على تحقيق نتائج ملموسة بعد أكثر من عامين من التنفيذ.
وعلاوة على ضرورة حسن استخدام الموارد الخارجية، تجدر الاشارة الى وجوب الاسراع بالتعزيز من فعالية تمويل التربية و التعليم. تعتبر تونس من بين أكثر دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط استثمارا في التربية، اذ تخصص أكثر من خمس ميزانية الدولة للتربية، أي حوالي 7% من الناتج المحلي الإجمالي. وعلى الرغم من حجم المبالغ المرصودة، تعجز الاستثمارات في أن تتحول إلى نتائج تربوية ملموسة لتواصل جودة التعليم تدهورها بشكل ملحوظ. وفي حين لم تنجح الإصلاحات التي تم الانطلاق فيها على مدى عدة سنوات في تحقيق الأثر المرجو، تواصل أزمة الحوكمة التي لا تزال تنخر منظومة التعليم في تونس في تعميق صعوبات تنفيذ السياسات والبرامج.
أنا لا أشك في التزام تونس الثابت بقضية التربية والتعليم، وذلك منذ استقلالها. أما اليوم، فأريد أن أتوجه بنداء للجميع للعمل معًا لإنهاء أزمة التعلم وأن نجعل من جائحة الكوفيد 19 فرصة لمضاعفة جهودنا في هذا المجال. فإلى جانب توفر الموارد المرصودة للغرض، الكل على علم بماهية الإصلاحات التي يتعين القيام بها. اليوم، تتطلب خطورة الوضع التزاما راسخا من قبل جميع الأطراف، مرفوقا بآليات متابعة على أرفع مستويات الدولة.
انضم إلى النقاش