نشر في أصوات عربية

السعودية: التراث الهوية والاقتصاد

الصفحة متوفرة باللغة:
نُشر هذا المقال لأول مرة في جريدة الرياض.

 Fedor Selivanov l Shutterstock.comكنا قد أجرينا دراسة في مركز التراث العمراني بالهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني مع البنك الدولي حول الفرص المتاحة للاستثمار في مجال التراث العمراني من قبل الملاك وكيف يمكن أن ندعم هذا التوجه الذي أصبح يشكل شخصية كثير من المدن العتيقة ويعطيها نكهتها الخاصة، هذه الدراسة نشرت قبل عام من قبل المركز، على أننا والزملاء في البنك الدولي، خصوصا الدكتور فؤاد ملكاوي، وهو معماري وصديق قديم اقترحنا أن نقوم بدراسة أكثر عمقاً للفرص المتاحة في أوساط المدن السعودية، وهو وسط تاريخي أصيب بحالة من الانهيار العمراني خلال الأربعة عقود ويتطلب عملاً كثيراً لإعادة الحياة الاجتماعية والاقتصادية إليه.

الحقيقة أن هذا التوجه الاقتصادي العميق طرحه الأمير سلطان بن سلمان في عدة مناسبات ومنذ مطلع الألفية الثالثة، حينها لم يكن أحد يعبأ بالتراث العمراني فضلا عن أن يفكر في الفرص الاقتصادية الكامنة التي يمكن أن يقدمها للاقتصاد الوطني والقيمة الثقافية الكبيرة التي يضيفها للمدينة السعودية بشكل عام، استمر الأمير في طرحه هذا يتحدث عنها في كل مناسبة حتى أصبح اليوم واقعاً معاشاً .

الترفيه مصطلح «مديني» بامتياز، ذو بعد تراثي يبعث الهوية بأشكال متعددة، فهو أحد قطاعات المدينة الاقتصادية الذي يحمل مضامين ثقافية عميقة ويشكل نمط الحياة المدينية في كل مكان.

قبل أيام جمعني حوار آخر مع الزملاء في البنك الدولي حول هذا المشروع البحثي/الاقتصادي لكننا تطرقنا إلى مفهوم المدينة المعاصرة، فهم يرون أن التراث قطاع اقتصادي فعال في المدينة لكنه واحد من عدة قطاعات أساسية يجب أن تتحول إليها إدارة المدن في المملكة. تحدثوا عن اسطنبول كمدينة تحولت من الاقتصاد الريعي الذي يثقل كاهل الدولة إلى الاقتصاد القطاعي (أي تجزئة المدينة إلى قطاعات اقتصادية) الذي يحول المدينة إلى مجموعة فعاليات اقتصادية تدعم بعضها البعض يديرها القطاع الخاص ويمكن للدولة ممثلة في حكومة المدينة أن تكون شريكة في هذا القطاعات وتنمي دخلها من هذه الشراكة مع رفع كفاءة المدينة ومستوى خدماتها، فمثلاً النظافة تشكل قطاعاً اقتصادياً وليس مصدر انفاق، والمترو يعمل كشركة استثمارية وغيرها من نشاطات وهو ما يسمى بالـ corporate وهو أسلوب يعتمد بشكل اساسي على رؤية المدينة كمجموعة من الفرص الاقتصادية المترابطة فالمدينة لا تستطيع البقاء دونها ولها تأثير عميق في كفاءة المدينة وهويتها .

بالطبع قد يقول البعض إن هذا الأسلوب في إدارة المدن يتعامل مع المدينة كمشروع تجاري، والحقيقة أن المدينة هي فكرة اجتماعية/اقتصادية تهدف بالدرجة الأولى إلى توفير حياة افضل للناس، كما أنها مسرح التعقيدات الثقافية ومجالها العمراني هو مجال التقاطعات الاجتماعية، وبالتالي فإن الهوية في جوهرها تتشكل في فضاءات المدينة، وهذا ما يجعلنا نهتم بشكل مباشر بتراث المدينة وتنوع طبقاتها "الأركيولوجية" الزمنية وإفرازاتها البصرية/العمرانية. هذا الاهتمام لا يمكن أن يبقى دون اقتصاد، فمعاش الناس وتشكل الفرص الاقتصادية في ومن فضاءات المدينة العمرانية هو مطلب أساسي ومشروع، لذلك فإن النظر للمدينة كمشروع تجاري مقبول في ظل المحدد الثقافي والاجتماعي، والذي هو محدد "خطير" بمعنى أنه يحدد ما إذا كانت مدينة ما تستحق ان نعيش فيها ويربطنا بها انتماء مكاني عاطفي ومصالحنا تتقاطع معها ومع من يسكنها .

التراث، هو جزء من قطاعات المدينة الاقتصادية لكنه قطاع متنوع وعميق وله بعد مادي محسوس وآخر غير مادي والتراث المادي وغير المادي يشكلان جوهر ما أصبح يعرف بـ"الترفيه"، والحقيقة أن الحديث مع الزملاء في البنك الدولي جرنا إلى "هيئة الترفيه" الوليدة وكيف أن الترفيه مصطلح "مديني" بامتياز، ذو بعد تراثي يبعث الهوية بأشكال متعددة، فهو أحد قطاعات المدينة الاقتصادية الذي يحمل مضامين ثقافية عميقة ويشكل نمط الحياة المدينية في كل مكان. ويفترض أن الحياة المدينية العفوية تصنع أنماط الترفيه فيها، فمثلاً لا نتصور مدينة مثل لندن دون وجود المسرح الإنجليزي العريق ودون وجود حي "سوهو" و"الوست إند"، ولا نتخيل شارع "البرودواي" في مانهاتن بنيويورك، دون دور الموسيقى والعروض المسرحية. المدينة تصنع هويتها الترفيهية وتتشكل مكانيا لتصنع ذاكرة جمعية تشكل الخارطة الذهنية للمدينة. الهوية الترفيهية لها تأثير عميق على المستوى العمراني والاقتصادي، وهي هوية يصنعها التفاعل الاجتماعي وما يفرزه من ثقافة .

ما يميز التراث بكل أنماطه هو أنه يستعيد الترفيه بشكل عفوي وكل ماهو مطلوب أن يطلق له العنان. المهم هنا أن هناك إرادة سياسية ترغب في إعادة الحياة الطبيعية للمدينة السعودية وأنا على يقين أن كل مدينة ستتمكن من تطوير أنماط الترفيه التي تناسبها .

ولعل هذا يجعلني أعيد ما ذكرته في مقالات عدة أن المدينة السعودية بحاجة إلى إدارة محلية أكثر من هيئات مركزية، وجود عقل مفكر محلي يدير المدينة وله كامل الصلاحيات هو ما تفتقر له المدن السعودية كي تتحول إلى مدن حية اجتماعياً وثقافياً، إن التحول إلى الاقتصاد المديني القائم على استغلال قطاعات المدينة وتطورها بشكل ذاتي يتطلب إدارة محلية فاعلية ولعل الخطوة القادمة التي نتوقعها هي إنشاء وزارة "الحكومة المحلية" وزيادة عدد مناطق المملكة حسب خارطة النمو الاقتصادي المستقبلي .

انضم إلى النقاش

محتوى هذا الحقل سيظل خاصاً بك ولن يتم عرضه للعامة
الأحرف المتبقية: 1000