نشر في أصوات عربية

الخروج (المستحيل) من مصر: الجزء الثاني

الصفحة متوفرة باللغة:

Image

يتبع من الجزء الأول 

حينما أصبحنا في مبنى الركاب، نظرت خلفي وكان أفراد الأمن قد أغلقوا المدخل إلى المبنى.لم يكن يتسع لأي شخص آخر.وكانت الساعة التاسعة صباحا تقريبا ولا يُسمح لأحد بدخول مبنى الركاب كما رأيت.كان حدس أختي صائبا؛فلو كنت قد تأخرت عن دخول مبنى الركاب أكثر من ذلك، لكنت على الأرجح قد رُددت على عقبي مثل آلاف آخرين كان لديهم تذاكر حجز مؤكدة للسفر. وبطرف عيني لمحتُ موظفي الخطوط البريطانية وقد بدأوا بالفعل فحص أوراق المسافرين. وبالنسبة لرحلة موعدها الرابعة مساء كان إتمام إجراءات سفر الركاب يجري بالفعل الساعة التاسعة صباحا، ولكن كان يتعين على أن أصل إلى (الكاونتر4) لإنجاز فحص أوراقي وكنت أقرب إلى الكاونتر 24، وهي مسافة تستغرق 5 دقائق لو لم يكن أحد أمامي.ولكن مع وجود قرابة خمسة آلاف شخص يحاولون الوصول إلى طوابير إتمام الإجراءات، كان الزحام شديدا.لقد تقاربت أجسامنا واستغرق الأمر مني نحو ساعة للوصول إلى الطابور المؤدي إلى موظف الخطوط البريطانية.مكثت في الطابور أربع ساعات لأدرك أن معظم الواقفين أمامي ليس معهم حجز مؤكد للسفر فيُردُّوا على أعقابهم.كان الموظفون يحاولون جهدهم أن يحجزوا مقاعد للناس على رحلات في أيام أخرى.وكان هناك رجل مسن على رأس الطابور وليس معه حجز مؤكد، فحجز له الموظف مقعدا على أول رحلة متاحة بعد أسبوعين،فترك الطابور وعيناه تدمعان لا يدري أين يذهب ولا ماذا يفعل.لم تكن حالته فريدة.

وأخيرا، حل دوري.وبدا أن موظف الخطوط البريطانية شعر بارتياح أنني على الأقل معي حجز مؤكد وأعطاني بطاقة صعود الطائرة.كانت هذه البطاقة كقطعة من الذهب في اليد وسط هذه الفوضى.قال لي الموظف إنه في غياب خدمات الإنترنت وتعذر إجراء مكالمات دولية ما كان يمكن إجراء عملية تأكيد الحجز إلا في المطار، ومن ثم كانت هذه الفوضى.ورأيت امرأة عجوزا تُرد على عقبيها عن يميني، وعلى الفور طرأت في ذهني فكرة بشأن ما ينبغي أن أفعله.وسرعان ما فهم الموظف مغزى نظرتي فقال: "يا دكتور شريف لن تفلح هذه الحيلة، فمن يريد أن يتنازل عن مكانه، فإنه يفعل ذلك لأول شخص على قائمة الانتظار، فليس هناك اختيار عشوائي لمن يصعد على متن الطائرة أولا"،وسواء كان كبير السن أم لا فإن النظام المعمول به لا يسمح باعتبارات السلوك الإنساني اللائق.

قضيت وأنا أحمل بطاقة الصعود للطائرة ثلاث ساعات أخرى لإنهاء إجراءات الجوازات.وعندئذ كانت الساعة تقترب من الثانية والنصف بعد الظهر وكانت الخطوط البريطانية قد أعلنت بالفعل عن بدء دخول الركاب من بوابة الصعود للطائرة.تراخت الإجراءات الأمنية، ولا أتذكر أنه جرى تفتيش أحد ونحن نصعد إلى الطائرة.وبحلول الساعة الثالثة عصرا كنت على متن الطائرة.وكانت آخر حافلة تحمل الركاب قد وصلت إلى الطائرة، طمأننا الطيار بأننا على وشك المغادرة، لكننا ننتظر راكبين اثنين آخرين.

غير أن أكثر من نصف الطائرة كان شاغرا.وسألت المضيفة الجوية عن هذه المفارقة، فشرحت لي أن المقاعد الشاغرة تخص أناسا عجزوا على الأرجح عن دخول مبنى الركاب لأنه كان قد أغلق.وهي مقاعد محجوزة بتذاكر مدفوعة الثمن ولم يحضر أصحابها ولم أستطع أن أصدِّق أنه لا يمكن السماح بركوب مزيد من المسافرين.ولا تلق اللوم على شركة الطيران فلو رأيت الفوضى في مبنى الركاب لتفهمت الوضع.وكان من المدهش أن الطائرة تم فعلا تزويدها بالوقود وأصبحت جاهزة للإقلاع.

جلست في مقعد بالدرجة السياحية بالقرب من الباب الذي كان الركاب يصعدون منه على متن الطائرة، ورأيت سيارة مرسيدس سوداء تقترب على المدرج.وقفت السيارة بجوار الطائرة وصعد ركابها على متن الطائرة.وحينما شقت هذه الأسرة طريقها إلى داخل الطائرة، تعرفت عليهم.فرب هذه الأسرة كان من أعوان مبارك، وهو أحد الذين كانوا في غمرة الأوضاع التي فجرت الثورة.وعلى الفور تعرَّف هو عليَّ وهو يدلف إلى داخل الطائرة وحياني.

حينما بدأت الطائرة في الإقلاع أخيرا صفق الركاب.ولكني لم أفعل، فقد كنت أنظر عبر زجاج النافذة وأنا أشعر بالقلق على أختي وأسرتي ولا أدري ماذا سيحدث بعد ذلك.وما أن أطفئت إشارة فك حزام أمان المقاعد، حتى جاءت المضيفة الجوية من الدرجة الأولى إليَّ في الدرجة السياحية وقالت إنني مدعو للذهاب إلى الدرجة الأولى لتناول القهوة مع "صديقي".لم يكن قط صديقا لي، وأنا لا أشرب القهوة، لكنني ذهبت إلى الدرجة الأولى بدافع الفضول ولمعرفة ما يريد أن يقوله.فقال لي إن مصر انتهت وإنه وأسرته سينتقلون إلى منزلهم في لندن ولن يعودوا أبدا.كان هذا قراره بعد أن تنحى مبارك في اليوم السابق.

ولكنه كان مخطئا؛ فمصر لم تنته، بل هو الذي احترق وهو يفر كالجبان الذي لا يريد أن يواجه النقد أو المحاسبة،فمصر لم تنته ولكن واأسفاه على أمثاله.لقد بدأت الثورة بالفعل تؤتي ثمارها وحينما عدت إلى مقعدي في الدرجة السياحية تذكرت الذين ضحوا بأرواحهم من أجل هذا اليوم.إنني أعرف من هُمُ الأبطالُ الحقيقيون الذين قدموا أغلى تضحية من أجل هذه الثورة المستمرة.


بقلم

خالد شريف

كبير الموظفين الإداريين

انضم إلى النقاش

محتوى هذا الحقل سيظل خاصاً بك ولن يتم عرضه للعامة
الأحرف المتبقية: 1000