تبني الاتجاهات الكبرى للتنمية البشرية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

الصفحة متوفرة باللغة:
تبني الاتجاهات الكبرى للتنمية البشرية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أطفال في محافظة الدقهلية، مصر. (البنك الدولي)

ماذا لو تحوّلت بعض أكبر التحديات التي تواجه منطقتنا - مثل  شيخوخة السكان، والضغوط المناخية، والتقدم التكنولوجي المتسارع إلى فرص كبرى للمستقبل؟ نقف في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، عند مفترق طرق. فالخيارات التي نتخذها الآن ستُحدد ملامح مستقبل أجيالنا القادمة.

على مدى العقود الثلاثة التي أمضيتها في مجموعة البنك الدولي، شهدت عن قرب كيف يمكن للاستثمار في البشر أن يغيّر مسارالمجتمعات ويحوّل التحديات إلى فرص للنمو والقوة. فرأس المال البشري ليس مجرد شعار أو مصطلح متداول، بل هو الأساس الحقيقي للصمود والازدهار. فعندما نستثمر في الصحة والتعليم وتنمية المهارات، فإننا نطلق طاقات الأفراد، ونقوّي المجتمعات، ونمكّن البلدان من مواجهة الأزمات واغتنام الفرص الجديدة.

ويقدم تقريرنا الرئيسي الذي صدر مؤخرا بعنوان "تبني التغيير وتشكيله: التنمية البشرية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مرحلة التطور" تحليلًا معمّقًا لتأثير ثلاثة اتجاهات عالمية كبرى على المنطقة، وهي: شيخوخة السكان، والضغوط المناخية، والتقدم التكنولوجي.  ويقدم التقرير خارطة طريق لتسخير هذه الاتجاهات من أجل إطلاق الإمكانات البشرية ودفع عجلة النمو الشامل للجميع.  

ومن المتوقع، خلال العقدين المقبلين، أن تسجّل المنطقة أعلى معدل نمو في نسبة السكان الذين تبلغ أعمارهم 65 عامًا فأكثر على مستوى العالم، لتصل هذه الفئة إلى نحو 12٪ من إجمالي السكان بحلول عام 2050، وقد تواجه أنظمة المعاشات التقاعدية التي لم يتم إصلاحها في العديد من البلدان عجزًا سنويًا يبلغ في المتوسط نحو 3٪ من إجمالي الناتج المحلي. وفي الوقت نفسه، تؤثر الأمراض غير السارية في بلدان مثل مصر والمملكة العربية السعودية والمغرب على نسبة أكبر من السكان، وتبدأ في سنٍّ أصغر مقارنةً بالبلدان ذات الأعمار السكانية المتقدمة مثل اليابان وألمانيا، مما ينعكس سلبًا على الإنتاجية ويؤدي إلى ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية.  

وفي الوقت نفسه، فإن بلدان المنطقة معرضة بشدة لمخاطر الضغوط المناخية. فزيادة تواتر موجات الحرارة الشديدة، إلى جانب الضغوط المتزايدة على الموارد المائية الشحيحة أصلًا، تشكّل تهديدًا للتعلّم والصحة وسبل كسب العيش في أنحاء المنطقة.

ومع ذلك، يُظهر تقريرنا أن أمام المنطقة فرصة حقيقية  لتحويل هذه الاتجاهات الكبرى المليئة بالتحديات إلى محركات للنمو. ولكن للقيام بذلك، تحتاج البلدان إلى سياسات واستثمارات جريئة تتماشى مع متطلبات المستقبل.  

أولا، يجب أن تتطور الأنظمة التعليمية لتزويد الشباب والبالغين بالمهارات الرقمية اللازمة للحاضر والغد، وعلى نطاق أوسع، ينبغي تعزيز المهارات المعرفية والعاطفية التي تمكّن الأفراد من أن يكونوا متعلمين أثناء العمل، ومتعاونين فعّالين، ومفكرين نقديين، وأكثر قدرة على التكيّف والمرونة. وعلى صعيد السياسات، يتطلب ذلك تعزيز المهارات الأساسية، وتوسيع مساهمة القطاع الخاص في تصميم المناهج الدراسية، وتطوير برامج التلمذة المهنية ونماذج التعلم في بيئة العمل، إلى جانب توفير مسارات مرنة للتعلّم مدى الحياة من خلال شهادات اعتماد تراكمية.

وفي منطقتنا، يمكننا النظر إلى المملكة العربية السعودية بوصفها نموذجًا ناجحًا في تحسين أنظمتها التعليمية وتعزيز مواءمة سوق العمل مع المهارات المطلوبة. وتقدّم المجالس القطاعية في المملكة يُحتذى به في تحوّل القوى العاملة، إذ وضعت معايير لعشرات المهن الخضراء،  ودرّبت آلاف العمال لدعم طموحات البلاد للوصول بصافي الانبعاثات إلى الصفر.

ثانيا، للمساعدة في مساندة المسنين، يجب إطالة عمر العمل من خلال أنظمة جيدة وتجنب ارتفاع تكاليف إعالة المسنين في المستقبل. ولتسخير إمكانات السكان العاملين، يجب على البلدان أولا توسيع نطاق مشاركة المرأة في القوى العاملة من خلال توفير رعاية جيدة للأطفال، والرعاية طويلة الأجل، والسياسات التي توفر المزيد من الفرص الاقتصادية للمرأة.  ويجب أيضا أن تعمل الأنظمة الصحية على التخفيف من حدة الأمراض المعدية من أجل زيادة صحة المسنين. ويجب عليها تعزيز تواصلها وتدخلاتها للوقاية من الحالات المزمنة وتحديدها مبكرا، ومساندة المرضى الذين يعانون من الأمراض المزمنة في علاج أمراض معينة، وتحسين أنماط الحياة الصحية (بما في ذلك فرض ضرائب على التبغ والأغذية غير الصحية بشكل مناسب). ويمكن للتكنولوجيا أيضا أن تدعم هذه الأهداف الصحية.  

وأخيرا، يجب أن تكون البلدان مستعدة للاستفادة من التقدم التكنولوجي من أجل تحسين فرص العمل. فهذا لا يسهم فقط في دعم استدامة أنظمة التقاعد مع تقدّم أعمار السكان، بل يعزّز أيضًا دور القطاع الخاص. ومع تزايد الوظائف الرقمية واعتماد الذكاء الاصطناعي في بيئات العمل، يصبح من الضروري تكييف لوائح وأنظمة العمل لحماية العاملين من المخاطر الناشئة، ولكنه يمثل أيضا فرصة لإدخال حوافز لتوسيع نطاق تغطية التأمينات الاجتماعية، إذا تم ذلك بشكل صحيح.  

ومما يؤسف له أن التحدّيات الناجمة عن هذه الاتجاهات الكبرى تتجلّى في منطقة تعاني من الهشاشة والصراع. وهنا، يجب أن تأتي التنمية البشرية أولا. إن إعادة بناء وحماية التعليم والصحة والأمن الغذائي وأمن الدخل ليست مجرد أولوية، بل هي ركيزة الاستقرار والتعافي الاقتصادي في المستقبل.  

إن مستقبل المنطقة لن يتحدد من خلال الموارد التي لدينا اليوم، ولكن بالتزامنا بالاستثمار في قدرات شعوبنا وقدرتها على الصمود. وباتباع سياسات وإجراءات جريئة، يمكننا تحويل التحديات التي نواجهها اليوم إلى فرص غدا. 

هل نحن مستعدون لاغتنام هذه اللحظة؟


فاديا سعدة

المديرة الإقليمية للتنمية البشرية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأفغانستان وباكستان بالبنك الدولي

انضم إلى النقاش

محتوى هذا الحقل سيظل خاصاً بك ولن يتم عرضه للعامة
الأحرف المتبقية: 1000