يتطلب تحقيق الأهداف الإنمائية في البلدان النامية قيام واضعي السياسات في هذه البلدان بإعطاء الأولوية لإحداث طفرة مُعتبرة في التمويل، جنبًا إلى جنبٍ مع إصلاحات السياسات التي تستند إلى إطار سليم للاقتصاد الكلي. ويؤكد كتاب صدر حديثًا تحت عنوان "إعادة تنظيم المعونة الإنمائية في القرن الحادي والعشرين: أهمية مساندة الموازنة" أن تنفيذ الإصلاحات على المستوى الوطني سوف يحتاج إلى قدرٍ أكبر من التعاون الخارجي، وإلى توسعٍ كبيرٍ في التمويل من المجتمع الدولي، وأيضًا إلى قيام بنوك التنمية متعددة الأطراف والمانحين الآخرين بدور تتزايد أهميته.
واستنادًا إلى مجموعة واسعة من الشواهد والأدلة السابقة، وكذلك إلى نتائج البحوث والتقييمات الجديدة، يُظهر هذا الكتاب أن مساندة الموازنة من جانب بنوك التنمية متعددة الأطراف يمكن، بل يتعين، أن تلعب دورًا رئيسيًا في مساعدة البلدان النامية على مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على مدار السنوات العشر القادمة.
تحديات التنمية
وفقًا للأمم المتحدة، وفي منتصف الطريق نحو عام 2030، تواجه أهداف التنمية المستدامة "عقبة كبيرة". وفي الواقع، إذا استمر الاتجاه الحالي المثير للقلق، فسيظل ما يقرب من 580 مليون شخص يعيشون في فقرٍ مدقعٍ بحلول عام 2030.
وكان لسلسلة من الصدمات العالمية أثرها في دفع هذا الوضع ليكون بالغ الصعوبة. فقد أدت الآثار السلبية للأزمة المالية العالمية في الفترة 2007-2009، وجائحة كورونا، واستمرار أزمة السلع الأولية في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، إلى زيادة الفجوة في تقدير الاحتياجات السنوية من الاستثمار في البلدان النامية من 2.5 تريليون دولار إلى نحو 4 تريليونات دولار. وهذه الزيادة تشمل التكاليف المتزايدة لتحول هذه البلدان إلى الطاقة النظيفة استجابة لتغير المناخ.
وقد أدى بطء الانتعاش في فترة ما بعد الركود الاقتصادي إلى تفاقم عجز الموارد (الشكل 1أ)، وهو الأمر الذي أفرز مجموعة من الظروف الصعبة للغاية أمام واضعي السياسات في هذه البلدان.
الشكل 1. ركود عميق يعقبه تعاف بطيء
المصدر: تقرير الآفاق الاقتصادية العالمية الصادر عن البنك الدولي في يونيو/حزيران (2023).
في الوقت نفسه، يشهد العالم تباطؤًا هيكليًا في النمو (البنك الدولي). وفي غياب إصلاحات عميقة على مستوى السياسات أو زيادة كبيرة في المساعدات الإنمائية والاستثمارات الخاصة، من المتوقع أن ينخفض النمو العالمي المحتمل إلى أدنى مستوياته في ثلاثة عقود خلال الفترة المتبقية من عشرينيات القرن الحالي. فنمو الاستثمار آخذ في الانخفاض (انظر الشكل 1ب)،
كما أن القوى العاملة تعاني ارتفاع السن أو أنها تنمو بوتيرة أبطأ في العديد من البلدان. وكل هذا لا يؤدي إلا إلى أن تكون الأمور أكثر صعوبة.
تَغَيُّر هيكل المعونة العالمية
تغيرَ هيكل المعونة العالمية بشكل كبير على مدى العقدين الماضيين، وأصبحت المعونة الإنمائية أكثر تجزئة مع ظهور مانحين جدد (مثل الصين) وصناديق رأسية ومؤسسات خيرية.
ولا تزال المساعدات الإنمائية الرسمية والإقراض غير الميسر الذي توفره بنوك التنمية متعددة الأطراف تلعب دورًا حيويًا بالنسبة للبلدان النامية. وغالبًا ما تكون هذه التدفقات الرسمية معاكسة للاتجاهات الدورية، إذ تتزايد في أعقاب الصدمات مثل الأزمات المالية والكوارث المرتبطة بالمناخ والجوائح (انظر الشكل 2أ). وعلى النقيض من ذلك، كانت التدفقات الخاصة، التي تهيمن على التدفقات الرسمية إلى البلدان النامية، مسايرة للاتجاهات الدورية، حيث تنخفض عندما تشتد الحاجة إليها (انظر الشكل 2ب).
الشكل 2. تدفقات رأس المال إلى الاقتصادات النامية لا تزال محدودة للغاية
المصادر: المؤلفون بالنسبة للشكل 2أ، واستنادًا إلى القوائم المالية، وبيانات لجنة المساعدات الإنمائية التابعة لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية بشأن الإقراض الرسمي؛ ويستند الشكل 2ب إلى موجز الهجرة والتنمية 36 الصادر عن شراكة المعرفة العالمية للهجرة والتنمية والبنك الدولي (2022).
وبالنسبة لصافي الإقراض المالي الرسمي للبلدان النامية، بما في ذلك مساندة الموازنة، فيعتبر أقل بكثير من التدفقات الخاصة. ولكن مساندة الموازنة، التي تشكل في المتوسط نحو 20% من إجمالي الإقراض الرسمي، فتتجاوز وزنها بشكل كبير. كما أنها تقوم بدور رئيسي في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الحيوية، ودعم التحول الهيكلي في البلدان المثقلة بالديون وغيرها من البلدان المعرضة للمخاطر، بالإضافة إلى تسهيل تنفيذ إصلاحات السياسات والمؤسسات العامة التي تساعد على الاستفادة من
رأس المال الخاص لتلبية الاحتياجات الإنمائية.
ما هي مساندة الموازنة؟
تشير مساندة الموازنة إلى طريقةٍ لتمويل موازنة البلد المستفيد من خلال تحويل الموارد التي يتم نقلها من جهة التمويل الخارجي إلى الخزانة العامة للحكومة المستفيدة، ثم تدار الأموال وفقًا لإجراءات الموازنة المطبقة في البلد المستفيد. وتختلف هذه المساندة عن المعونة التقليدية الموجهة للمشاريع التي تصرف مواردها مقابل نفقات محددة مرتبطة بمشروع ما (مثل برنامج تعليمي
أو مشروع بنية تحتية واسع النطاق).
وتستند مساندة الموازنة إلى حوار يتم بين المانحين والمستفيدين فيما يتعلق بالسياسات العامة، ويتم صرفها وفقًا لامتثال البلد المستفيد لإصلاحات السياسات العامة المتفق عليها بين الطرفين. ولذا، فإن مساندة الموازنة تتعلق بحوار السياسات العامة على أساس تحليلٍ متين، وتركز على الأولويات الإنمائية لحكومات البلدان المستفيدة.
وهذه الفكرة ليست جديدة، فاستكمالاً للإقراض التقليدي للمشروعات، ظهرت مساندة الموازنة منذ أكثر من نصف قرن كأداة للمعونة لمعالجة اختلالات الاقتصاد الكلي المشروطة بتطبيق "إصلاحات" اقتصادية رئيسية تدعمها بنوك التنمية متعددة الأطراف.
وتم استخدام (وانتقاد) هذه الأداة على نطاق واسع كأداة لتشجيع مبادئ تَوَافُق آراء واشنطن.
وبحلول أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان هناك اتفاق على أن علاج أوجه القصور في المساعدات الإنمائية يتطلب قدرًا أكبر من الشعور بالمسؤولية على المستوى الوطني، والتنسيق بين المانحين، واستخدام الأنظمة القُطرية، والقدرة على التنبؤ والاتساق مع الإستراتيجيات الوطنية للحد من الفقر. وأبرزت مساندة الموازنة، المبنية على الحوار بشأن السياسات العامة والمشروطة بتنفيذ إصلاحات يتم الاتفاق عليها بين طرفيها، أهميةَ سياسات الاقتصاد الكلي السليمة، والإدارة العامة الرشيدة، وبناء القدرات المؤسسية (فضلاً عن استقلالية البلد المستفيد وقدرته على الرقابة والمتابعة).
وتضمن إعلان باريس وتوافق آراء مونتيري رؤيةً جديدة لمساندة الموازنة، جنبًا إلى جنبٍ مع وضع تدابير تتماشى مع الإستراتيجيات الإنمائية للبلدان المستفيدة. وعلى هذا تم اعتبار مساندة الموازنة الأداة الأساسية للحوار الخاص بسياسات الاقتصاد الكلي وخطط الحد من الفقر. وعن طريق هذا النوع من الحوار، كان من المتوقع أن يؤدي تنسيق مشاركة المانحين إلى الجمع بين مجتمع المانحين والحكومة حول التدابير الخاصة بالبلد المستفيد ومستهدفاته الإنمائية، لا سيما ما يتعلق منها بالقضاء على الفقر المدقع.
وما أضفى على مساندة الموازنة قدرًا من الجاذبية هو ما تتضمنه من عوامل زيادة الشعور بالمسؤولية على المستوى الوطني، وبناء القدرات القُطرية، وتعزيز الأنظمة القُطرية، بدلاً من استخدام الهياكل الموازية التي يتم إنشاؤها تلبيةً لمتطلبات المانحين وتنسيق الإجراءات المتعلقة بالموازنة. ولذلك يجب أن يكون المزيد من الشعور بالمسؤولية مصحوبًا بالمزيد من التأثير الإيجابي.
تطور دور مساندة الموازنة
في الاجتماع الأخير لمجموعة العشرين، أقر رؤساء الدول بالحاجة إلى زيادة كبيرة في التمويل من جانب بنوك التنمية متعددة الأطراف، نظرًا لأهميتها الشديدة في مساعدة البلدان النامية على مواجهة تحدياتها الإنمائية.
وتعد بنوك التنمية متعددة الأطراف أهم الجهات الممولة لمساندة الموازنة، إذ تمثل نحو 85% من إجمالي مبالغ التمويل،
مع تزايد تركيز الشروط المتعلقة بالسياسات على الإصلاحات المؤسسية متوسطة الأجل (ولا سيما إصلاحات الإدارة المالية العامة)، والتحول نحو عدد أقل من الإجراءات المسبقة. ولكن في العديد من الحالات، أدى الحماس المبكر الذي أبداه المانحون إلى إفساح المجال أمام تعدد الأجندات والتجزؤ، مع التمويل المشترك الذي شابه تفرق المسؤولية عن تنفيذ الشروط. ولا يزال تحقيق التوازن الصحيح بين الاستقلالية على مستوى البلد المعني ووضع الشروط الضرورية لتقديم التمويل مهمة صعبة.
في الوقت نفسه، ظهرت نُهُج جديدة لمساندة الموازنة على مدى العقدين الماضيين، منها "خيارات السحب المؤجل" التي توفر السيولة في أوقات الأزمات، و"الضمانات المربوطة بالسياسات" للاستفادة من مصادر التمويل الخاص. وجرى تعميم مساندة الموازنة في عدد من البلدان التي تختلف فيما بينها في مستويات الدخل والقدرات المؤسسية وجودة أنظمة الحوكمة
والاستقرار السياسي.
وقد ركزت عمليات مساندة الموازنة الأخيرة على مجالات تغير المناخ والقطاعات الاجتماعية والمساواة بين الجنسين. ولا تزال إصلاحات حوكمة القطاع العام تشكل النصيب الأكبر من الإجراءات المتخذة على صعيد السياسات العامة. وتَوَسعَ نطاق مساندة الموازنة بشكل تدريجي ليشمل أقل البلدان نموًا، والتي تعاني ارتفاعًا مترسخًا في معدلات فقرها، وضعفًا في مؤسساتها،
وعدمَ يقينٍ في آفاقها الإنمائية.
ومع تزايد التحديات الإنمائية التي تواجه البلدان في جميع أنحاء العالم، من المهم أكثر من أي وقت مضى ضمان فعالية برامج المعونة. وتشكل مساندة الموازنة أداة مفيدة للمعونة الإنمائية، ومن المرجح أن يزداد الاعتماد عليها على مدى العقد القادم.
انضم إلى النقاش