إنها بيروت، عاصمة الصمود والنخوة التي احتضنت، ولا تزال تحتضن، الحضارات والثقافات بألوانها المتنوعة. فهي التي صمدت، وما زالت تصمد اليوم، في وجه الأزمات المتواصلة في محيطها، الواحدة تلو الأخرى.
فعلى الرغم من نعمة الموارد الطبيعية التي يتمتع بها لبنان، ما زال سكان بيروت يعانون نقصا حادا في إحدى أهم مكونات الحياة: المياه. ويشهد على ذلك ازدحام طرقاتها بصهاريج المياه التي تختلط ابواقها بأصوات المدينة. ويؤثر هذا النقص الحاد في المياه على 1.6 مليون شخص من سكان بيروت ومنطقة جبل لبنان، لاسيما أفقر أنحاء المدينة، التي يعيش حوالي 460 ألف من سكانها على أقل من 4 دولار أميركي في اليوم، مما يضطرهم إلى تسيير أمورهم للتعويض عن ساعات قليلة تتوفر فيها مياه الشرب يوميا. وفي بعض المناطق، قد تنخفض فترة توزيع مياه الشفة إلى ثلاث ساعات يوميا خلال موسم الصيف، حيث تبلغ الأزمة ذروتها.
فبعد مرور أكثر من عام على إقامتي في بيروت، لاحظت أن لكل مواطن تقريبا استراتيجيته الفريدة للحصول على المياه والتصدي لهذه الأزمة المتفاقمة، إذ أن القسم الأكبر من السكان يلجأ إلى شراء قوارير مياه الشرب البلاستيكية المكلفة، أو إلى شراء المياه من الصهاريج الخاصة التي تجول في العاصمة والتي باتت من المشاهد المألوفة في شوارع بيروت. هذه التكلفة الباهظة للحصول على المياه تؤثر بشكل كبير على الفقراء، حيث تنفق الأسر ما يقارب الـ 15% من دخلها الشهري للحصول على مياه نظيفة، وهي مخصصات من الممكن توجيهها بدلا من ذلك إلى الرعاية الصحية أو إلى التعليم.
أما الحل لأزمة المياه في لبنان فيكمن على بعد كيلومترات من بيروت، أي في الجبال التي تلامس الساحل. فأغلب المياه العذبة في لبنان مخزنة في القمم الثلجية للجبال أو تتسرب إلى جوف الأرض لتغذي آلاف الآبار التي تمد بيروت والمناطق المحيطة بها بالمياه. ومن المؤسف أن في كل عام، يصب ما تبقى من المياه في البحر، بدلا من أن يتم تخزينها وإعادة جرّها ليستفيد السكان من مياه الشفة.
وقد عملت الحكومة اللبنانية والمجتمع المدني والشركاء في التنمية والأوساط الأكاديمية عبر السنين على اختبار أفضل السبل لحل أزمة المياه في البلاد. وكانت الحكومة اللبنانية قد قررت بالفعل في خمسينيات القرن الماضي تخزين بعض مياه الأمطار الغزيرة من خلال بناء سد بالقرب من منطقة بسري لتخزين وإعادة جرّ المياه لاستخدامها من قبل سكان بيروت ومنطقة جبل لبنان. وبموجب هذه الخطة التي يدعمها البنك الدولي، ستُجر المياه بشكل طبيعي وبقوة الجاذبية عبر نفق يبلغ طوله 26 كيلومترا، كما وستتم معالجتها في محطة الوردانية لمعالجة المياه على نحو دقيق لضمان جودتها ، وذلك قبل تزويد السكان بمياه الشفة الآمنة والنظيفة.
في الشهور الأخيرة، عبر بعض المواطنين عن قلقهم إزاء سلامة سد بسري المرتقب وتأثيره على بيئة المنطقة وتنوعها البيولوجي. وبموجب هذا المشروع، تمت الاستعانة بلجنتين من الخبراء الدوليين المستقلين لمراجعة العناصر الوقائية البيئية والاجتماعية للمشروع. وقد عقد مجلس الإنماء والإعمار، الجهة المنفذة للمشروع، العديد من المشاورات مع المواطنين اللبنانيين ومنظمات المجتمع المدني بشأن السد المزمع إقامته، كما التقى فريق البنك الدولي مراراً بعدد من المنظمات غير الحكومية. وقبل حوالي أسبوع، أقرت لجنة التفتيش المستقلة التابعة لمجموعة البنك الدولي أن البنك الدولي يطبق إجراءاته وسياساته الوقائية بشكل صحيح في ما يخص خطط الإدارة البيئية والاجتماعية التابعة لمشاريع المياه التي يمولها في لبنان. وسيواصل البنك الدولي تنسيقه الوثيق مع الحكومة اللبنانية ومجلس الإنماء والإعمار للتشاور مع المواطنين اللبنانيين في كل ما يخص مشروع بسري، وذلك على نحو شفاف وشامل.
يعتز البنك الدولي بعلاقته المميزة مع لبنان، ويبقى على كامل الاستعداد لدعم هذا البلد الكريم في الاستفادة من بعض موارده الطبيعية بطريقة مستدامة. فنحن نؤكد حرصنا الدائم على خدمة اللبنانيين عبر السبل البيئية والاجتماعية الموثوقة والآمنة والأكثر استدامة. هذه أمانة لا نستهين بها، وهذا المشروع صمم ليستفيد منه المواطنون، خاصة الذين لا يستطيعون تحمل أي اعباء مالية إضافية في ظل الظروف الراهنة. الهدف تنموي. الهدف إفادة اللبنانيين. الهدف توفير مياه الشفة النظيفة لكل منزل.
للمزيد من المعلومات عن مشروع بسري، يرجى زيارة موقعنا الإلكتروني على الرابط التالي: www.albankaldawli.org/ar/programs/bisri-dam
*الكاتب: المدير الإقليمي لدائرة الشرق الأوسط في البنك الدولي
انضم إلى النقاش