’طفيل’، الحائز على جائزة السعفة الذهبية لأحسن فيلم بمهرجان عام 2019 وجائزة أوسكار أحسن فيلم، هو كوميديا سوداء تدور حول أسرة فقيرة تعيش في شقة متهدمة مظلمة ورطبة في الطابق الأسفل بمبنى سكني في سيول- وهي محنة مئات الآلاف من السكان الذين يعانون ماديا في المدينة. تحيك العائلة مؤامرة محكمة لتحسين أحوالها المعيشية. وتتوالى بعد ذلك أحداث المحنة، بالضبط كما تتفاقم أزمة التفاوت في السكن.
إلا أنه بالنسبة لمليارات البشر الذي يعيشون في ظروف مشابهة أو ربما أسوأ في شتى أنحاء العالم، ليس هذا بالشيء المضحك. ففي حين يناضل العالم لمكافحة وباء كورونا (كوفيد-19) غير المسبوق، هناك أكثر من ملياري شخص مازالوا محرومين من المرحاض، ولايستطيع مئات الملايين مجرد غسل أيديهم في المنزل . في نفس الوقت، تتسبب الكوارث والتغيرات المناخية في تدمير أعداد متزايدة من المنازل، لتترك وراءها 14 مليون مشرد سنويا.
بالفعل، تهرول الحكومات في شتى أنحاء العالم لسد الفجوة السكنية ببناء المزيد من المنازل بالمشاركة مع القطاع الخاص. ومع هذا، ففي أغلب البلدان النامية، هناك اثنتان من كل ثلاث عائلات تحتاج فقط إلى منزل أفضل، وليس إلى منزل جديد .
الإسكان لايعرض حياة وصحة الأسر الفقيرة للمخاطر وحسب، بل يؤثر أيضا على سلامتها العقلية، وهي مسألة لاتحظى بالكثير من الاهتمام- والتمويل- عند وضع سياسات الإسكان. في الحقيقة، أظهرت الدراسات أن الآثار المترتبة على الإسكان غير اللائق والخَطِر والمزدحم تؤثر على الصحة العقلية من ثلاثة جوانب على الأقل:
- رداءة السكن تحد من احترام الذات. في العديد من الثقافات، ترتبط هوية المرء ارتباطا وثيقا بمستوى معيشته. وقد أصبح المنزل وسيلة للتعبير عن الذات والهوية. ورداءة أحوال السكن لا تؤثر فقط على الصحة البدنية، بل أيضا تقوض احترام الذات- بينما من المرجح أن يعزز الارتقاء بالسكن الثقة بالنفس.
- رداءة السكن تزيد من مستويات الاكتئاب والتوتر، مما يؤدي إلى تفشي العنف المنزلي. المعيشة في مساكن مكدسة لايقلص الخصوصية فحسب، بل يهدد بتمزيق الروابط الأسرية- إلى حد العنف المنزلي. الدراسات التي جرت على المساكن المكدسة تكشف زيادة معدلات الصراع بين الأزواج والأبناء. كما يمثل ارتفاع أسعار المنازل مشكلة رئيسية، حيث يعاني واحد من بين كل أربعة بالغين من الضغوط في دفع الإيجارات أو أقساط الديون العقارية.
- رداءة السكن تزيد من احتمالات الإصابة بالاضطرابات النفسية الناجمة عن الصدمات كثيرا ماتعاني الأسر الناجية من الكوارث من اضطرابات نفسية حادة نتيجة الإصابة بالصدمة، ليس فقط بسبب التجربة المأساوية التي عاشوها، بل أيضا نتيجة ما يتبعها غالبا من نزوح. في الواقع يعاني قرابة ربع الناجين من الزلازل من اضطرابات نفسية ناجمة عن الصدمات. وقد أُطلق على الآثار الذهنية والعاطفية للزلازل المدمرة الكارثة الخفية الأخرى كتلك التي شهدها الكثيرون في زلزال هاييتي عام 2010 الذي أودى بحياة أكثر من 200 ألف شخص، وزلزال نيبال الذي شرد 700 ألف شخص. فإعادة الإعمار وحده ببساطة لايعوض الخسائر.
إن الاستثمار في سكن رخيص وجيد قبل أن تقع الكارثة التالية يمكن أن ينقذ الأرواح ويصون الأبدان والعقول ويحافظ على الأوضاع المالية للأسر. ما الذي يمكن أن تفعله المدن لتحسين أحوال السكن وبناء مجتمعات أفضل صحة للجميع؟ ثلاث أفكار:
الأولى، دعم تحسينات المنازل لتحقيق نتائج صحية أفضل. فالإصلاحات البسيطة والرخيصة نسبيا يمكن أن تحدث فارقا كبيرا، مثل تركيب شيش للنوافذ للوقاية من الإصابة بالملاريا التي يحملها البعوض، والاستثمار في وسائل العزل من الحرارة والبرد. وقد أظهرت الدراسات أن تنظيف الأرضيات من القاذورات يقلص إلى حد كبير من إصابة الأطفال بالإسهال والأمراض الطفيلية، كما يخفف الضغوط على الأم. وقد بدأت الشركات في تلبية هذه الاحتياجات. ففي رواندا، على سبيل المثال، تعكف الشركات الناشئة بالفعل على تعبيد الأرضيات القذرة لمنع تفشي الأمراض.
ثانيا، إضفاء المزيد من قوة المباني وقدرتها على الصمود. وكما يقول المثل السائر، "الزلازل لاتقتل، بل المباني هي التي تقتل." وتحتاج برامج تحسين المنازل إلى التصدي الفوري للعيوب الهيكلية قبل أن تحل الكارثة التالية. التكنولوجيات الجديدة الرخيصة متاحة لحصر المباني المعرضة للخطر وتطبيق الإجراءات الوقائية. إذا كان لخوارزميات التعلم الإلكتروني أن تساعد أطباء الأورام على تشخيص الإصابة بالسرطان، فإنها بالتأكيد تستطيع أن تشحذ همم أفضل المهندسين في رصد الهياكل البنائية الضعيفة.
ثالثا، تطوير الضواحي لتحويل المدن إلى موطن أفضل للجميع. من المعروف أن لتحسين البنية الأساسية على مستوى الضواحي في المجتمعات الفقيرة تأثيرات إيجابية على الصحة. وفضلا عن عمليات التحديث البسيطة، يتعين على مخططي المدن تحسين سبل وصول الفئات منخفضة الدخل إلى المساحات الخضراء العامة والتي أثبتت أن لها تأثيرا كبيرا على الصحة العقلية. ورغم الضغوط الكبيرة على ميزانيات الإسكان، ينبغي على الحكومات أن تراعي عنصر التكلفة الاجتماعية لتردي الظروف المعيشية للأطفال الذين يمكن أن يتسبب التكدس والعنف الأسري والاكتئاب في إعاقة نمو قدراتهم. ولزيادة مستوى الرفاه بالمجتمعات المحلية، تضرب بلدان، مثل المكسيكو كولومبيا المثل في ذلك من خلال برامج يجري تنفيذها حاليا لدمج وتمكين الفئات المهمشة، ومنها المهاجرين واللاجئين.
الإسكان الآمن والرخيص حق للجميع. كما أنه أساسي للتصدي للأزمة العالمية المتنامية في الصحة العقلية، والتي يقدر الخبراء كلفتها على الاقتصاد العالمي بحوالي 16 تريليون دولار بحلول عام 2030. مع انتشار فيروس كورونا في جميع أنحاء العالم، فإن منازلنا يمكن أن توفر لنا الحماية المهمة التي نحتاج إليها لسلامتنا العقلية والبدنية- لكن هذا فقط إذا كانت هذه المنازل آمنة ومريحة. وسواء كنا ننظر إلى المستقبل القريب أو البعيد، يتحتم على صناع السياسات تبني استراتيجيات إسكان شاملة لاتركز فقط على التغلب على أزمة السكن، بل أيضا على تحسين جودة المنازل الموجودة.
• اشترك في نشرة المدن المستدامة التي نصدرها.
• تابعنا على تويتر: WBG_Cities@
انضم إلى النقاش