شيء غريب حدث مؤخرا في وسط واشنطن العاصمة حيث يقع المقر الرئيسي للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. فقد سيطر موتسارت على المؤسستين بموسيقاه الرائعة التي كانت تصدح في أنحاء القاعات الزجاجية والجوقة المشتركة من البنك والصندوق تعزف أشهر أعماله.. باسم التنمية.
قد تتعجب مما يفعله خبراء البنك والصندوق بهذه الموسيقى التي يعزفونها في إطار مشروع طموح يشمل جوقة البنك والصندوق. يوضح كلاي وسكوت، رئيس الجوقة، ذلك عند تقديم هذا الحدث، قائلا "تقدير الثقافة بكل أشكالها المتنوعة.. أمر حيوي لتحقيق هدفي البنك وهما إنهاء الفقر المدقع خلال جيل واحد وتحقيق الرخاء المشترك."
فالثقافة تسهم في التنمية بطرق عديدة. وفيما يلي ثلاثة أمثلة: أولا، بتحفيز أنشطة اقتصادية مباشرة عبر الحفلات الموسيقية الفعلية والاتجار في السلع والخدمات الثقافية. ثانيا، عبر قدرة الفنانين على تحرير خيال البشر وإطلاق العنان له. ثالثا، عبر تشجيع التضامن والاحتواء والتعاون بين أفراد المجتمع المحلي. لكن حيث أن الثقافة، وهي المصطلح التي تندرج تحتها الفنون، يدور حولها الكثير من النقاش لتعريفها وتحديدها بل وتفسيرها، فإنها ثمرة في متناول اليد يندر قطفها عند ممارسة التنمية.
يفهم كثير من الفنانين قيمة التنوع في الفنون لتعزيز التنمية. لكن غالبا ما تكون الصعوبة في محاولة إثبات هذا للآخرين. فالبيانات عن هذا الموضوع محدودة. لكن الخبر السار هو أن عددا متناميا من البحوث يدرس هذه المسألة. ويضيف إلى هذا العدد ورقتي التي أعددتها بعنوان الثروة المبتكرة للأمم: كيف يمكن لفنون الأداء أن تعزز من التنمية والتقدم البشري، وكتب مقدمتها أمارتيا سين، حيث تثبت أهمية زيادة عنصر الفنون في التنمية. لكن دعوني أتناول الآن نقطتين اثنتين.
فلنتحدث عن الخيال. كثير منا يستخدم ورق الملاحظات اللاصق. وقد أصبح هذا الاختراع العارض من أعلى خمسة منتجات مكتبية مبيعا في العالم. لكن كم شخص يعرف أن هذه الأوراق كانت من ابتكار العالم المخترع أرثر فراي الذي كان يريد علامة لا تسقط من كتاب الترانيم وهو يغني مع جوقة كنيسته؟ وفي حين أنه قد يصعب رؤية علاقة هذا بالتنمية، فمن الجدير بالذكر أن هذا الاختراع تحقق بسبب تجربة كورالية.
أو يمكن النظر إلى علاقة البشر كمثال. فلو كانت التنمية عن البشر، فأي بشر هم؟ أين هم؟ كيف يمكن لأنشطة مثل الغناء في جوقة أو العزف ضمن مجموعة أو حضور حدث ثقافي أن يساعد على بناء العلاقات؟ إن الجوقة المشتركة بين البنك والصندوق، وهم مجموعة من خمسين فردا، تغذي ثقافة التعاون وهي ممارسة يحاول البنك بقوة مناصرتها. ولا ريب أن التعاون ليس علاجا ناجحا، لكن يصعب العمل بفعالية دونها.
والقوالب النمطية هي بالضبط ذلك: قوالب نمطية. لكن من المذهل معرفة كيف أنها تشوه الواقع باستمرار. ومن المؤكد أن الفنون، مثلها مثل غيرها من أشكال التأثير، يمكن استخدامها في تعزيز هذه القوالب النمطية. بيد أنها إذا استخدمت بإيجابية فبوسعها أن تكسر هذه القوالب. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك مديرة الجوقة سونيا سوبايا سوتون، وهو أمر نادر في عالم الموسيقى الكلاسيكية أن ترأس الجوقة امرأة. وزميلتي التي دعتني إلى هذا الحفل الموسيقي بحماس هائل صينية، وهي ليست مسيحية. أما أنا فأوغندي، فما الذي سأفعله مع موتسارت؟ لقد جمعنا عمل موتسارت الموسيقي الرائع. كانت الأوركسترا رائعة والجوقة متناغمة والمؤديتان نيلام براون وباتريشيا روجرز تصدحان بالغناء كتغريد الطيور وهي تنطلق في السماء. وفي هذه الأجواء انتقل الجمهور إلى عالم آخر.
حين رأس نائب المدير السابق لصندوق النقد الدولي تشارلز ميروين اجتماعا لبحث الموسيقى في الصندوق عام 1958، ربما لم يكن يتوقع أنه بعد سنوات ستؤدي جوقة من الصندوق والبنك أحد أعمال موتسارت الرائعة. وآمل أن تؤدي الجوقة لاحقا أعمال كبار الموسيقيين حول العالم وتضم إليهم طلابا من كلية دوك إيلنجتون للفنون وتبدأ تبادل الزيارات مع جوقات من أماكن أخرى مثل كينشاسا.
انضم إلى النقاش