تذكرنا الفضيحة المعروفة بـ "وثائق بنما" بأن إخفاء الثروة والتهرب الضريبي أمران شائعان بل ومشروعان في العديد من الحالات. إلا أن هذه التسريبات المشينة تنجلي عن شيء آخر: خيانة الأمانة حينما تستطيع الشركات والأثرياء والأقوياء إخفاء أموالهم دون أن يعد هذا انتهاكا للقانون. إذا تم التغاضي عن هذا الخرق للقوانين دون التصدي له، فإن الفئات التي ليست على درجة من الثراء التي تمكنها من إخفاء أموالها ستكون أقل رغبة في الدفع أو المساهمة في العقد الاجتماعي الذي تقايض فيه الضرائب بجودة الخدمات.
وبصفتي وزيرة سابقة للمالية في بلدي إندونيسيا، رأيت عن كثب كيف أن ضعف النظام الضريبي قد أدى إلى تآكل ثقة الجمهور وإلى تفشي رأسمالية المحاباة والمحسوبية. وقد برزت أسواق الظل التي يباع فيها الوقود المدعوم، وتحجز فيها الوظائف لأفراد العائلة، فيما ضخمت الرشا العائدات على الموظفين العموميين. كان التهرب الضريبي متفشيا بين النخبة، وكان البلد عاجزا عن تدبير الموارد التي يحتاج إليها لإقامة البنية التحتية وخلق الوظائف ومكافحة الفقر.
وكان من الصعب طرح تصور الشفافية والمساءلة في هذا النظام المتهالك، الذي كان يواجه معارضة سياسية وانتكاسات. عملنا على إدخال تحسينات فنية قد تبدو أساسية لكنها لم تكن موجودة حينها، ومن بينها تحسين أنظمة المراجعة وتعزيز الرقابة الداخلية ووضع أنظمة حاسب آلي جديدة لتقليص التعامل المباشر مع الجمهور والحد من فرص تلقي الرشا. كما قدمنا حوافز لموظفي الحكومة، ورفعنا روحهم المعنوية، وفرضنا الانضباط.
وإندونيسيا ليست سوى مثال على كيف أدى العقد الاجتماعي المتهالك إلى عرقلة التنمية. في الواقع، تشكل تعبئة الموارد اللازمة للخدمات والتنمية تحديا عالميا تعدم فيه العديد من البلدان وجود وعاء ضريبي قوي ، بل والقدرة على تحديده. خمسون في المائة من البلدان النامية تحصل على 15 في المائة من إجمالي دخلها المحلي من الضرائب ، وتعتمد الكثير من هذه البلدان بشدة على الموارد الطبيعية. وعلى النقيض من ذلك، فإن هذا المتوسط يبلغ في بلدان منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي حوالي 34 في المائة.
وبعد خمس سنوات من بدء الإصلاحات، ارتفع عدد دافعي الضرائب في إندونيسيا من 4.35 مليون إلى 16 مليون تقريبا. وزادت عائدات الضرائب بنحو 20 في المائة سنويا. وبهذا الدخل، دعمنا الميزانية، وخفضنا ديوننا، وزدنا قدرة إندونيسيا على تقديم الخدمات الأساسية، كالطرق والمياه النظيفة والرعاية الصحية. وقد ساعدتنا قوة الاقتصاد، إلا أننا عززنا أيضا الثقة التي يحتاج إليها القطاع الخاص للاستثمار وخلق الوظائف.
وقد تؤدي الآثار المترتبة على وثائق بنما إلى استلهام نظام ضريبي دولي أكثر قوة وإنصافا يقوم على قواعد ضريبية سليمة، ومؤسسات جيدة فضلا عن النزاهة. وهناك جهود مشجعة تبذلها مجموعة العشرين ومحافل دولية أخرى لإدخال إصلاحات ضريبية راسخة وتشجيع التعاون الدولي الملزم. والآن، قد تكون لحظة تحويل الكلام إلى أفعال قد حانت.
وللوفاء بهدفينا العالميين لإنهاء الفقر وتشجيع الرخاء المشترك، فإننا نحتاج إلى مساعدة البلدان على التغلب على التحديات غير العادية في السياسات الضريبية والإدارة. وتجابه البلدان المتعاملة معنا طائفة كبيرة من المشاكل، منها: مؤسسات الأعمال- الأجنبية والمحلية- التي لا تمتثل للقواعد واللوائح الضريبية، وضخامة أعداد مؤسسات الأعمال غير الرسمية غير المسجلة، وضعف إدارة الإيرادات، وتردي نظم الإدارة الرشيدة والحوكمة، وعدم ثقة الجمهور.
لقد دعم البنك الدولي الإصلاحات التي توليت قيادتها في إندونيسيا، ومازالت هذه المؤسسة تزيد من قدرتها على القيام بالمزيد. ويعكف فريق عالمي من خبراء الضرائب تشكل مؤخرا على تجميع الرؤى المتعلقة بمشاكل معينة تواجهها البلدان المتعاملة معنا، ويعمل معهم على إيجاد حلول لها. ونحن نسمع عن رغبتهم في تلقى المساعدة بشأن قضايا الضرائب الدولية، كالتسعير التحويلي- وهو وسيلة يمكن أن تستخدمها الشركات العالمية لتوزيع الأرباح بين فروعها للحد من الأعباء الضريبية الملقاة على عاتقها. كما أنها تبحث عن المساعدة في مجال السياسات الضريبية، التي تشمل ضريبة القيمة المضافة، والقضايا المتصلة بالشفافية، ومن بينها جمع البيانات الضريبية، والإفصاح عن الدخل الذي تدره الموارد الطبيعية. وتعمل فرقنا بالفعل حاليا مع حكومات باكستان وكولومبيا والعديد من دول أوروبا الشرقية من أجل إدخال تحسينات.
سندرج النتائج التي نتوصل إليها في المبادرات المشتركة مع صندوق النقد الدولي، ومنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، والأمم المتحدة وآخرين. وتهدف هذه المبادرات إلى مساعدة البلدان على تقوية أنظمتها الضريبية، وتنسيق المعونات العالمية المتصلة بالضرائب، والتأكد من إسماع صوت مصالح البلدان النامية في الحوار الدولي المتنامي حول الإصلاح الضريبي.إنني أعلم يقينا، كوني وزيرة سابقة للمالية، أن الثقة هي جزء مهم في المعادلة. لا أحد يحب دفع الضرائب، وهذا النفور لا ينمو إلا إذا شعر الناس بأن مساهماتهم تبدد أو تسرق. إن الإصلاحات الضريبية جزء حيوي من بناء مجتمعات المساواة التي تحترم فيها النخبة النظام والقوانين ، ويمكنها أن تساعد الحكومات على الإنفاق السليم، وحماية الفقراء والمحتاجين، مع محاربة الفساد في الوقت نفسه.
قد لا نجعل الناس والشركات يشعرون بالمتعة وهم يدفعون الضرائب، لكن يتعين علينا أن نضع أنظمة تجعل من الصعوبة بمكان إخفاء الثروات والتهرب من دفع الرسوم المفروضة عليها. إن هذا جزء مهم من المعركة ضد الفقر.
انضم إلى النقاش