لقد غير العمل عن بعد أنماط تفكيرنا بشأن مستقبل العمل في جميع طبقات المجتمع. وسيتعين على مختلف البلدان والمؤسسات العامة والشركات التصدي لتحديات متعددة عند الاستعداد لمستقبل العمل، حتى ونحن نحدد الدروس المستفادة من الجائحة: فقدان الوظائف على نحو كبير في قطاعات النقل والضيافة والترفيه والسياحة، واقتران ذلك بتعطل سلاسل القيمة، واعتماد وسائط إلكترونية، خاصة في مجالات الصحة والتعليم والحكومة وتجارة التجزئة.
إننا نعلم أن الاستثمار في البنية التحتية الرقمية وتطوير القدرات الرقمية قد أثبتا أنهما من عوامل التمكين بالغة الأهمية لنجاح محور العمل عبر الإنترنت والتعلم عبر الإنترنت والعيش أثناء الجائحة. غير أن التكلفة لا تزال مرتفعة من حيث العزلة والصحة النفسية وحرمان البشر من الاتصال بعضهم ببعض، وفقدان الفرص لمليارات الأشخاص غير المتصلين بالإنترنت.
وبالنسبة للمحظوظين بالاستمتاع بالإنترنت عالي السرعة، فإن العمل عن بعد في ظل جائحة كورونا يمثل تغييرا كبيرا: فقد خلق تعقيدات للتنسيق والرقابة، وخفض الدوافع والمعنويات، ودمر النسيج الاجتماعي. وبالنسبة للآخرين، فإنه فتح الباب أمام فرص جديدة، وعزز الإبداع، وأتاح مزيدا من المرونة؛ أو ما يسميه الخبراء العمل الذكي.
من العمل عن بعد إلى العمل الذكي
كيف ننتقل من العمل عن بعد إلى العمل الذكي، مما يتيح التطوير المهني والتميز، بينما نعمل افتراضيا؟ كان ذلك في صميم المناقشة بين القادة والخبراء من برنامج التعاملات الإلكترونية الحكومية بالمملكة العربية السعودية (يسّر)، والأمم المتحدة، وكوريا الجنوبية، والبنك الدولي، وذلك خلال حلقة دراسية عبر الإنترنت عُقدت مؤخرا وأدارها نائب الرئيس التنفيذي لبرنامج يسّر المهندس هشام الشيخ. واتفق الخبراء الحاضرون جميعا على ضرورة إعادة تأهيل القوى العاملة الحالية والمواطنين على السواء بالمهارات، وشددوا جميعا على ثلاث مجموعات من التحديات التي تبرز بين العمل عن بعد ومستقبل العمل الذكي:
التحديات الفنية
يتم تمكين العمل عن بعد والعمل الذكي من خلال شبكات الاتصالات، والشبكات المؤمنة عبر الإنترنت، والسحابات الحكومية، وإجراءات تحديد الهوية عبر الهاتف المحمول. ويؤثر عدم تقديم هذه الخدمات على تقديم الخدمات ويزيد من الفجوة الرقمية، مما يعوق الخدمات الحيوية، التي تقديمها لأعداد كبيرة من المواطنين. لنأخذ على سبيل المثال، عملية تسجيل طفل حديث الولادة في عام 2020. ففي البلدان التي تنتشر فيها الأدوات الرقمية، غالبا ما تجري العملية برمتها افتراضيا. وفي البلدان التي لم تقدم بعد خدمات إلكترونية للجمهور، ولد الآلاف، إن لم يكن ملايين الأطفال، دون تسجيلهم على الإطلاق.
التحديات الهيكلية
يتبنى الموظفون والمواطنون العمل عن بعد والعمل الذكي إذا كانا مصحوبين بمراجعة الهياكل التنظيمية، وأساليب التقييم، ومؤشرات الأداء الأساسية، وأنظمة المكافآت. وليس من الضروري أن تكون هذه التغييرات جذرية، ولكن عدم وجود حتى تعديلات صغيرة يخلق مقاومة ويبطل في كثير من الأحيان الجهود المشتركة نحو العمل الذكي. وكان قانون العمل عن بعد في كوريا الجنوبية لعام 2010، على سبيل المثال، الذي تصدى للعمل عن بعد لأول مرة، عامل تغيير، لا سيما للأمهات العاملات.
التحديات الثقافية
أبرز المتحدثون أن الثقافة هي أهم عنصر في تحقيق التغيير المستدام والناجح، وهي أيضا الأكثر صعوبة في تعريفها وبالتالي الأكثر صعوبة في التأثير. أما القيادة فهي العامل الرئيسي للتغيير الثقافي. وبالنسبة لوزارة الاتصالات وتقنية المعلومات السعودية، فإن إدارة المشروع والبعثات التي كانت تجري في العادة بشكل شخصي أصبح يقوم بها حاليا كبار القادة ومالكو المشروعات، وذلك للإشراف عن بعد على التقدم المحرز.
ومن الواضح أن معظم بلدان العالم النامية والعديد من البلدان المتقدمة أبعد ما تكون عن مواجهة هذه التحديات، فهي لم تصل بعد إلى مرحلة اعتماد العمل الذكي بشكل كامل. وفي محاولة لتحديد الممارسات الجيدة، ناقش المتحدثون ثلاث قدرات رئيسية لوضع خارطة طريق للعمل الذكي:
القدرة على الاستشعار - دائما ما تكون سابقة للخطوة التالية
لقد علمتنا الجائحة أنه حتى المستوى الصغير من الإنذار المبكر يمكن أن يحدث أثرا كبيرا في كيفية استعداد بلد ما لأي قضية ناشئة ورد فعله تجاهها. وبالنسبة لخدمات تكنولوجيا المعلومات بالبنك الدولي، جاء هذا الإنذار المبكر في يناير/كانون الثاني 2020 من فريقه في الصين. وتعد القدرة على الإحساس بالإنذار المبكر أمرا أساسيا للتمكن من العمل على أساسه: يقول السيد كلاي لين، مدير خدمات التكنولوجيا بالبنك الدولي عن الاستجابة المبكرة للجائحة "سمعنا الأخبار عن احتمال نشوب جائحة في يناير/كانون الثاني. وبدأنا في اتخاذ الإجراءات اللازمة لتفعيل ما نسميه الاستجابة من المستوى الأول لبرنامج استمرارية تصريف الأعمال. ثم قمنا بتوسيع نطاق المتابعة ورفع التقارير لفهم مدى خطورة هذه الجائحة، ومدى انتشارها."
تعبئة القدرات - تتجاوز إنشاء البنية التحتية
من كوريا الجنوبية، ظهرت قصة واضحة عن أهمية التعبئة. قبل أكثر من عشر سنوات، سنت حكومة كوريا الجنوبية قانون العمل عن بعد، مما أتاح وضع جداول عمل مرنة والعمل عن بعد لموظفي الخدمة العامة. إلا أنها تجاوزت إنشاء البنية التحتية المادية والرقمية التي تتيح العمل الذكي، مثل تزويد موظفي الخدمة المدنية بأجهزة الكمبيوتر المحمول عالية الجودة، وتطوير المهارات الرقمية ذات الصلة. وفي حين كان بعض الموظفين الحكوميين مترددين في استغلال هذه الفرصة قبل الجائحة، فإن السماح بالعمل من المنزل أتاح محورا سريعا للعمل في المنزل.
القدرة على التوسع - البنية التحتية الرقمية هي مكافئ اجتماعي ومضاعف اقتصادي
أشار المتحدثون أيضا إلى أن البنية التحتية الرقمية المتينة جعلت من السهل توسيع نطاق الخدمات عن بعد سريعا دون الحاجة إلى موارد إضافية. وأشار السيد فارس السقبي، مساعد نائب وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات السعودي، إلى أن "البنية التحتية الرقمية هي مكافئ اجتماعي ومضاعف اقتصادي في الوقت ذاته". وفي المملكة العربية السعودية، يعني ذلك تقديم 30 مليون استشارة طبية عن بعد وإصدار 1.7 مليون وصفة طبية رقمية من خلال تطبيق صحي رقمي. وبالنسبة للبنك الدولي، يعني ذلك توسيع نطاق جلسات ويبكس من 39 ألف جلسة شهريا إلى 20 ألفا يوميا.
ونعلم أيضا أن العمل الذكي يزيد الإنتاجية كما ناقشته منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي. وبالنسبة للسيدة ديمة اليحيى، الأمينة العامة لمنظمة التعاون الرقمي، فإن ذلك يعزى جزئيا إلى مرونة العمال وشعورهم بالمسؤولية عن تحديد أولويات الإجراءات. وركزت السيدة اليحيى على إمكانات الشباب، وعلى نهج شامل، لإعادة مهارات الشباب من أجل وظائف القطاع الرقمي التي لم يتم شغلها في جميع بلدان المنظمة (البحرين والأردن والكويت وباكستان والسعودية). وماذا عن العمل عبر الحدود، مثل تجارة التجزئة أو النقل أو التجارة أو الصحة؟ بالنسبة للسيد فينسنزو أكارو، إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية بالأمم المتحدة (رئيس شعبة الحكومة الرقمية)، فإننا بعيدون عن العمل الذكي. وفي حين أن للتكنولوجيا الرقمية تأثيرا عابرا للحدود يُفضل العمل الذكي والعمل الحر المؤقت، "لا تزال إمكانية الوصول إلى الإنترنت والتقنيات، فضلا عن السياسات الرقمية، والإطار التنظيمي، والقدرات الرقمية متعددة ومجزأة". وشدد السيد أكارو على دور الشراكة بين القطاعين العام والخاص في سد فجوة القدرات الرقمية.
ولذلك، وللاستفادة مما يبشر به العمل الذكي الذي يوظف المواهب في مختلف البلدان، فإننا نحتاج إلى أطر تنظيمية وقوانين عمل متوافقة عبر الحدود. ولكي تحقق الحكومات حلمها في أن تصبح منظومة "حكومة في شكل منصة"، كما تقوم مجموعة جارتنر بتنفيذها، فإنها ستحتاج إلى تطوير القدرة على التعاون والشمول، داخليا أولا ثم خارجيا أيضا.
وأكدت استنتاجات الندوة الإلكترونية الكلمات الافتتاحية للرئيس التنفيذي لبرنامج التعاملات الإلكترونية الحكومية السعودي المهندس علي العسيري: هذه دعوة إلى العمل من أجل تغيير طريقة عمل الحكومات. وثمة حاجة ماسة إلى ضخ استثمارات في البنية التحتية الرقمية، والقدرات الرقمية، وأمن الفضاء الإلكتروني، وإدارة التغيير. واختتم عصام أبو سليمان، المدير الإقليمي لدائرة دول مجلس التعاون الخليجي بالبنك الدولي، بالتأكيد على التزام البنك الدولي بمساندة السعودية وجميع دول مجلس التعاون الخليجي في إستراتيجياتها الطموحة الرامية إلى التحول الرقمي.
انضم إلى النقاش