في الفترة السابقة لاندلاع الانتفاضات العربية، كانت البيانات تلعب دورها في تضليل المتابعين للمنطقة. ولعل مصر وتونس أصدق الأمثلة على ذلك. فقد أنهت كلتا الدولتين العقد الأول من القرن الحالي بتطبيق ذلك النوع من الإصلاحات الاقتصادية الكلاسيكية التي كثيرا ما حظيت بإطراء المنظمات متعددة الأطراف والدولية. وقد ألقى الخبراء المتخصصون في البلدين من ذوي الكفاءات الرفيعة والمعرفة والنوايا الحسنة نظرة على الإصلاحات والمسارات التي سلكها إجمالي الناتج المحلي، ومؤشرات أخرى تقليدية، كمعدلات وفيات الرضع، وانخفاض معدلات الفقر، إلخ، وانتهوا إلى أن هاتين الدولتين كانتا تمضيان على مسار التصحيح المطرد، حتى وإن لم يكن كاملا. ومع هذا، لم تمض إلا أسابيع قليلة حتى انفجرت اضطرابات سياسية هائلة في الدولتين.
أطلقنا في منظمة غالوب في عام 2005 سلسلة من المقاييس التي تبرز بدقة شديدة لقادة العالم والمؤسسات البحثية الأوضاع الإنسانية التي تعيشها شعوب المنطقة. وكان مقياس كانتريل للتحديد الذاتي للازدهار (Cantril Self-Anchoring Striving Scale) من أكثر وسائل القياس التي وضعناها جوهرية وأهمية للاستطلاع العالمي. ويصنف غالوب من استجابوا للاستطلاع إلى فئات مزدهرة، أو مكافحة أو فئات تعاني، وفقا للمكان الذي يضعون فيه أنفسهم في الحاضر والمستقبل على مقياس متدرج مقسم إلى عشر درجات. فهؤلاء الذين يضعون أوضاعهم المعيشية الحالية عند الدرجة السابعة أو أعلى ويتوقعون أوضاعهم بعد خمس سنوات عند الدرجة الثامنة أو أعلى هم من الفئات "المزدهرة"، بينما من يقيمون أوضاعهم في الحالتين عند الدرجة الرابعة أو أدنى يعتبرون من الفئات التي "تعاني". أما المشاركون في الاستطلاع ممن يعتبرون أنفسهم بين الفئتين فيصنفون على أنهم من "المكافحين".
فما رأيناه في كل من مصر وتونس، وأيضا في دول أخرى شهدت اضطرابات، ومنها البحرين وسوريا، ومن خلال هذا المقياس السلوكي، كان هو الحقيقة التي تتوارى خلف قناع اتجاهات نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي ومعايير تقليدية أخرى للقياس. في الحقيقة، في السنوات التي سبقت الاضطرابات، وفي الوقت الذي يمكن أن يكون أفضل وصف لاتجاهات معايير القياس التقليدية هو أنها
"هادئة مع تحسن طفيف"، كانت بيانات تقييم المعيشة تحكي قصة واضحة ومتسقة في تونس ومصر واليمن والبحرين. فقد كان المحور العام لتلك البيانات هو
"تحذير! السكان تحت ضغوط.
لا تفاقم الأمر!" وكان هذا يعزى إلى
التراجع الواضح في كيفية تقييم المواطن لحياته." وكان جليا أن الكثيرين نظروا إلى المستقبل نظرة قاتمة، بغض النظر عما بلغه إجمالي الناتج المحلي أو عما تقوله المقاييس الكلاسيكية الأخرى عن بلادهم.
وقبل الاضطرابات السياسية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بثلاث سنوات، كانت زيارة كل بلد منها جزءا من وظيفتي للقاء الوزراء والعاملين معهم. وقد أطلعتهم على بيانات تغطي العديد من الموضوعات، من العمل إلى الأمن فالعلاقات الخارجية والتنمية وغيرها، لإفادتهم بالبيانات التي انتهت إليها مسوح الاستطلاع العالمي التي أجريت في بلادهم كل على حدة. وكان رد فعل كل واحد منهم على المقاييس السلوكية واحدا تقريبا: هذه نتائج مدهشة، لكننا نحتاج "إلى مقاييس حقيقية" لمتابعة ما يجري بالفعل في مجتمعاتنا. أحد الإفادات التي لا تُنسى كان مليئا بترديد طلب "نحتاج إلى بيانات عن كيفية خلق وظائف جديدة" كما لو كانت الوظائف ستقفز من جداول بيانات إكسل.
بيد أن البيانات أصبحت ذات سمعة سيئة حينما ننظر إلى الانتفاضات العربية، ليس لأن هذه البيانات كانت غير سليمة أو غير متسقة، لكن لأن من يتابعون المنطقة كانوا يستخدمونها بطريقة غير صحيحة. قرأنا إجمالي الناتج المحلي واعتقدنا أنه يشير إلى
"سلامة الأوضاع الاجتماعية العامة"، ورأينا معدلات وفيات الرضع ومؤشرات أخرى لقياس الصحة تعود إلى عقود من الزمن واعتقدنا خطأ
"أنها مازالت جيدة بما يكفي؛
فالتوقعات البشرية لم تتغير."
ورغم طبيعتها المضللة في الفترة السابقة على الانتفاضات العربية، تظل المقاييس الكلاسيكية السليمة والموثوقة أداة مهمة للغاية لأي شخص يحاول متابعة التقدم الذي تحرزه المجتمعات في المنطقة. لكن التحدي يكمن في أن النطاق المفيد لهذه المقاييس كثيرا ما يبالغ فيه أو يستنبط منه بحيث يحمل من المعاني أكثر من المقصد الذي وضع من أجله. ففي مصر وتونس، كانت هذه المقاييس تعتبر كافية لقياس التقدم الاجتماعي بشكل عام. هذا على الرغم من أن نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي، على سبيل المثال، لم يكن المقصود منه أن يكون بديلا عن التقييمات الاجتماعية والسياسية.
وبالنسبة للقيادات والباحثين على السواء، فإن من الأهداف المهمة في السنوات الخمس القادمة وضع قياسات أكثر صلاحية ومواءمة ووضوحا وثقة بحيث تمكننا من النظر بدقة أكثر إلى أوضاع المجتمعات في المنطقة. ونظرا للحقائق المزعجة التي تنجلي تباعا في المنطقة، فإن هذا الأمر يحظى حاليا بأهمية قصوى لجميع الأطراف الفاعلة، لاسيما القيادات الوطنية والمحلية في المنطقة، وليس فقط الباحثين.
والحقيقة هي أن: من بين أهم البيانات التي يمكن أن يجمعها المرء هي أن يسأل الناس عن حياتهم وهو
مجال هم خبراء فيه. فالاستمرار في استخدام الاقتصاد الكلي والمقاييس الكلاسيكية الأخرى للقياس كمؤشرات لمدى الصحة الاجتماعية هو خطأ لم يعد لدينا ترف ارتكابه مرة أخرى في هذه المنطقة.
قواعد حقوق الملكية
تتضمن هذه الوثيقة بحثا مشمولا بحقوق الملكية، ومواد خاضعة لحقوق المؤلف، ومواد فكرية مملوكة لمؤسسة غالوب. وهذه المواد يمكن أن تستخدمها شركتك فقط للاسترشاد بها، وليس للنسخ أو الاقتباس والنشر أو لإفشائها إلى آخرين خارج مؤسستك. Gallup® هي العلامة التجارية لمؤسسة غالوب، وكافة العلامات التجارية الأخرى هي ملك لأصحابها. ولهذه الوثيقة قيمة كبيرة لمؤسستك ولمؤسسة غالوب. ومن ثم، فإن القوانين الدولية والمحلية والعقوبات الضامنة لحقوق الابتكار والملكية والعلامات التجارية والأسرار التجارية تكفل حماية الأفكار والمفاهيم والتوصيات الواردة في هذه الوثيقة. ولا ينبغي إدخال أي تعديلات على هذه الوثيقة بدون تصريح مكتوب من مؤسسة غالوب.
انضم إلى النقاش