يعد تمويل اقتصادات الخليج ذات الدخل المرتفع الاختلالات الخارجية المستمرة لجيرانها ذوي الأهمية الجغرافية والإستراتيجية من السمات البارزة في التاريخ الاقتصادي المعاصر لمنطقة الشرق الأوسط. ويطرح هذا المقال سؤالا عما سيحدث عندما تصبح عجوزات الحساب الجاري في البلدان الرئيسية بالمنطقة غير مستدامة نتيجة التكنولوجيا الهدّامة في السوق العالمية للوقود الأحفوري.
عندما واجه لبنان تقلبات الأسواق المالية في بداية هذا العام، قدمت قطر يد المساعدة. وقال وزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثان، في بيان له بعد موافقة بلاده على شراء سندات حكومية لبنانية بقيمة 500 مليون دولار "نتمنى تحقيق الاستقرار والرخاء للجمهورية اللبنانية والشعب اللبناني، وأن يستعيد الاقتصاد اللبناني عافيته. فالمنطقة في حاجة إلى لبنان قوي ومزدهر" (رويترز، 2019أ).
وفي أعقاب ذلك مباشرة، هبطت هوامش الفائدة على السندات السيادية اللبنانية. وبعد أيام قليلة، أعلن وزير المالية السعودي أن بلاده ستدعم لبنان "إلى ما لا نهاية" (رويترز، 2019أ). وبعد بضعة أشهر، عاود هامش الفائدة على السندات السيادية اللبنانية الارتفاع حين عجزت الحكومة اللبنانية المشكلة حديثا عن الإسراع بوتيرة إصلاحات هيكلية وأخرى خاصة بالمالية العامة.
إن هذه الحقبة تعد رمزاً لتاريخ اقتصادي مهم لمنطقة الشرق الأوسط يتسم بقيام الاقتصادات ذات الدخل المرتفع بتمويل الاختلالات الخارجية المستمرة (عجوزات الحساب الجاري) التي تلازم الاقتصادات ذات الأهمية الجغرافية والاستراتيجية.
وبفضل التدفقات الرأسمالية المتأتية من مصادر رسمية، صار باستطاعة العديد من اقتصادات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سد العجز التجاري وعجز الحساب الجاري المستمرين. وصار العديد من البلدان المستوردة للنفط، مثل جيبوتي ومصر والأردن ولبنان والمغرب وتونس، يشهد عجزا كبيرا ومستمرا في الميزان التجاري وفي الحساب الجاري لما يزيد على عشر سنوات. وعليه يبرز سؤال جوهري للمنطقة يتعلق بالاقتصاد الكلي وهو ما إذا كان هذا النموذج من اقتصادات الفائض التي تمول عجوزات جيرانها نموذجا مستداما.
ربما تكون الإجابة بالنفي في المدى الطويل، على الرغم من أن أزمات الأسواق الناشئة العادية لا يحتمل حدوثها في المدى القصير. وتحافظ النجاحات التكنولوجية في مجال الطاقة المتجددة وفي مجال النفط الصخري على انخفاض أسعار النفط وبالتالي تحد من قدرة المنطقة على تعبئة المدخرات الإقليمية.
ومن المتوقع أن يظل سعر التوازن طويل الأجل للوقود الأحفوري منخفضا، وكذلك قدرة فوائض الحساب الجاري لأعضاء مجلس التعاون الخليجي. ويعد التراجع في أسعار النفط خلال الفترة 2015-2017 إشارة دالة. وقد هبط متوسط موازين الحساب الجاري لدول مجلس التعاون الخليجي من متوسط فائض ضخم بلغ 16.5% من إجمالي الناتج المحلي بين عامي 2000 و 2014 إلى عجز بسيط بلغ 0.7% من إجمالي الناتج المحلي خلال الفترة 2015-2017 (انظر الشكل 1).
بالإضافة إلى ذلك، يتسم سجل النمو التاريخي للمنطقة بالضعف. ورغم توقعات البنك الدولي بتحسن طفيف في نمو إجمالي الناتج المحلي للمنطقة للفترة 2019-2021 (1.5% في 2019، و3.4% في 2020، و2.7% في 2021)، ستظل معدلات النمو منخفضة نسبيا في المنطقة.
ويبين الشكل 2 متوسط معدلات النمو في نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي لكل بلد من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (ممثلة في المعينات الزرقاء). ويبين كذلك معدل النمو المتوسط لمجموعات الدخل المقابلة (ممثلة بالخطوط الأفقية الحمراء). ومن المتوقع لأغلبها أن تنمو بوتيرة أبطأ من بلد نمطي (متوسط) في مجموعة الدخل المقابلة خلال الفترة 2018-2021. وبالفعل، فإن هذا النموذج من النمو المنخفض نسبيا استمر لعقود في المنطقة (انظر الشكل 2).
فما العوامل التي يمكن أن تقود كلا من النمو الضعيف وعجوزات الحساب الجاري المستمرة؟ في دراسة أرزقي وآخرون (2019) نرجع السبب، بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلى ضعف إنتاجية العمالة. ونقوم بفحص أسس موازين الحساب الجاري، وتحديدا الديموغرافيا، والنمو المتوقع، والإنتاجية الكلية للعمالة (مقارنة بالولايات المتحدة)، وأسعار السلع
الأولية، وأنظمة أسعار الصرف. وهذا النهج التحليلي مماثل لذلك الذي يطبقه صندوق النقد الدولي (صندوق النقد الدولي، 2013)، لكنه يركز على مجموعة فرعية أصغر، وذات أبعاد خارجية أوضح، من "العوامل الأساسية".
ونجد أنه لو أن حساب رأس المال أغلق تماما، فإن زيادة قدرها نقطة مئوية واحدة في الإنتاجية النسبية مقارنة بالولايات المتحدة ترتبط بتراجع قدره 0.16 نقطة مئوية في ميزان الحساب الجاري. ولاحظ أنه في السنوات العشر الأخيرة، فإن إنتاجية العمالة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ظلت تتراجع مقارنة بالولايات المتحدة، من نحو 56% في 2007 إلى نحو 46% في 2017. (يتسبب فتح الحساب الجاري في تفاقم عجز الحساب الجاري حين يُتوقع أن تكون تدفقات رأس المال أعلى).
وتشير توقعاتنا إلى أنه لا يمكن للعوامل الأساسية أن تفسر موازين الحساب الجاري في العديد من اقتصادات المنطقة (انظر الشكل 3). وبعبارة أخرى، بعد مراعاة كل الأسس طويلة المدى، فإن موازين الحساب الجاري لهذه البلدان تظل سلبية من الناحية الإحصائية.
فالمكون غير المفسر يتم حسابه باعتباره القيمة الباقية من التحديدات الأساسية التي وضعها كبير الخبراء الاقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالبنك الدولي، والتي تمثل الفرق بين ميزان الحساب الجاري الفعلي وبين ميزان الحساب الجاري المتوقع. ويبين الشكل 3 الحدين الأعلى والأدنى لميزان الحساب الجاري غير المفسر، وكذلك التوقعات الخاصة بعام 2020.
ورغم ذلك، فالخبر السار أن تركيب حساب رأس المال في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يبدو أقل عرضة "للتوقف المفاجئ" لتدفقات رأس المال، إذ إنه يتكون في جانب كبير منه من تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، والمساعدات الرسمية، وحافظة أصغر من تدفقات الاستثمار الأكثر استقرارا، مقارنة ببلدان من مجموعات الدخل المقابلة. وهكذا فإن تحليلنا الأولي يقضي بأن أزمات موازين المدفوعات التقليدية غير محتملة الحدوث في المنطقة في المدى القصير. وعلى الجانب الآخر، فهي تعتمد على تدفقات ثابتة من المساعدات الرسمية، والتي قد لا تستمر على المدى الطويل نتيجة التكنولوجيا الهدّامة في السوق العالمية للوقود الأحفوري.
وبالتالي، فإن السؤال الرئيسي المتعلق بالسياسات هو ما الذي يمكن فعله حيال عجوزات الحساب الجاري التي لا يمكن الاستمرار في تحملها في اقتصادات المنطقة التي تظل ذات أهمية جغرافية وإستراتيجية لمجموعة متنوعة من الأطراف العالمية والإقليمية الفاعلة؟
ويرى بعض المحللين، ومن بينهم محللو صندوق النقد الدولي، أن الإجابة تكمن في التقشف المالي، وأنه أمر عاجل. غير أن الشواهد تشير إلى أن العلاقة بين عجوزات المالية العامة وعجوزات الحساب الجاري خلال العشرين عاما الماضية، أو نحو ذلك، كانت منخفضة أو سلبية في العديد من اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (انظر الشكل 4).
وفي حين فقدت سياسة المالية العامة بعضاً من قوتها الدافعة، يصبح تنفيذ إصلاحات هيكلية قادرة على رفع نصيب العامل من إجمالي الناتج المحلي طريقا أطول أمدا للمضي فيه. ويناقش تقريرنا الإصلاحات في أوجه إنفاق المالية العامة، والسياسات المتعلقة بالتجارة، والحماية الاجتماعية وأسواق العمل، والمشروعات المملوكة للدولة في مجال صناعة الشبكات. ولا يمكن للعجوزات في الحساب الجاري والميزان التجاري في الاقتصادات الرئيسية بالمنطقة أن تستمر إلى ما لا نهاية، وسرعان ما ستتضاءل قدرة دول مجلس التعاون الخليجي على تمويلها. لقد حان بقوة وقت الإصلاحات الهيكلية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
انضم إلى النقاش