يلعب مكان الميلاد دورا في تشكيل مصائر الناس في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أكبر منه في أي مكان آخر بالعالم . ويمثل هذا مشكلة للحكومات في المنطقة، وينبغي أن تكون كذلك. فقد اختبرت الكثير من الوسائل لتلبية احتياجات الناس في المناطق المتأخرة، وتم إنفاق مبالغ ضخمة على الاستثمار في هذه الأماكن. وقد حاول واضعو السياسات إدخال منشآت إنتاج جديدة بقوة في هذه المناطق، لخلق المزيد من الوظائف في المناطق الأكثر فقرا. وتم ضخ الأموال في مشروعات الإسكان الضخمة لتلبية الحاجة إلى المساكن اللائقة ووسائل الراحة في الأحياء الحضرية الفقيرة.
ومع ذلك، تستمر التباينات المكانية في التزايد، أو يتم ردم الهوة بينها ببطء أكثر مما كان متوقعا في ضوء حجم الاستثمار الموجه إلى هذه المواقع. وأسباب الاستبعاد المكاني لا تتعلق بالموقع وليست مادية بل هي اقتصادية ومؤسسية.
مع استثناءات قليلة مثل الأردن، فإن عدم المساواة بين الجنسين أعلى في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
لماذا تتسم منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالتجزئة الشديدة؟
لماذا يتعذر بشدة تحقيق التقارب الإقليمي؟ في تقرير أكملناه مؤخرا في البنك الدولي، حددنا أربعة أسباب لذلك.
لم تتمكن معظم المناطق المتأخرة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من الاستفادة من العائدات الكاملة لإمكاناتها لأنه مع ما تشهده مدنها من بيئة أنشطة الأعمال والبنية التحتية يتعذر على الشركات الجديدة أن تنشأ وتنمو. ومن الأسباب التي تؤدي إلى هذا الوضع أن المدن الأصغر خارج العاصمة في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا دائما ما تفتقر إلى السلطة اللازمة لزيادة إيراداتها الخاصة وإدارة الخدمات المحلية.
معظم السكان في المناطق المتأخرة "عالقون في مكانهم"، غير قادرين على الاستفادة الكاملة من الوظائف التي توفرها الاقتصادات الحضرية الأكثر حيوية. وربما يوجه اللوم الأكبر في الجمود الذي يعتري حياة الناس إلى أنظمة التعليم التي تهتم فقط بمنح الشهادات.
في المناطق المتقدمة، تشوه اللوائح الجامدة التي عفا عليها الزمن أسواق الأراضي وتعرقل عملية التنمية. فعلى سبيل المثال، تحظر اللوائح في تونس المباني السكنية التي يزيد ارتفاعها عن ثلاثة طوابق، وتفرض اللوائح في الأردن ألا تقل مساحة قطعة الأرض عن 100 متر مربع، مما يحد من توفير الإسكان الرسمي الميسور التكلفة.
وضعت حكومات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عقبات هائلة أمام التجارة والهجرة. وتتمثل الحواجز الرئيسية في القيود المفروضة على الأخبار والمعلومات والقيود العملية على السفر والتجارة (صعوبات منح التأشيرة، ضعف البنية التحتية، العقبات أمام الخدمات اللوجستية).
الأمر صعب بالنسبة للشركات خارج عواصم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
التخطيط لآلية التقارب
تتطلب زيادة التكامل والتقارب حل هذه المشكلات. ويمكن لحكومات المنطقة أن تقلص التباينات الإقليمية بوتيرة سريعة وفعالية عن طريق خمسة أمور:
- تعزيز التنسيق والتكامل بين المبادرات. من المرجح أن تنجح استراتيجيات التنمية إذا كانت متعددة الأبعاد، بما في ذلك الوصول إلى الطاقة والنقل والأراضي والأسواق - في المكان ذاته، سواءً بالتتابع أو بالتزامن. وقد يحْسُن بنا أن نبدأ بتعزيز الاستثمارات في المدن وما حولها. كما أن الإصلاحات التكميلية التي تساعد في تحديد الأسعار المناسبة - للطاقة والأراضي – يمكن أن تقطع شوطًا طويلاً في تهيئة الظروف لخلق فرص العمل في الأجزاء المتأخرة. ومما يبعث على التفاؤل أنه لا يتعين على الحكومات أن تضخ مزيدا من الموارد المالية لتحقيق نتائج أفضل، لأن التنسيق المكاني سيولّد وفورات في التكلفة في الأجل المتوسط إلى الأجل الطويل.
- إعادة توزيع الأدوار والمسؤوليات عبر مختلف مستويات الحكومة. المواطنون في أجزاء مختلفة من أي بلد لهم احتياجات مختلفة، والظروف المحلية تتطلب نماذج مرنة لتقديم الخدمات. ومن خلال منح أجهزة الحكم المحلي مسؤوليات أكبر عن توليد الإيرادات المحلية وتقديم الخدمات المحلية يمكن أن تصبح أفضل إعدادا وأكثر خضوعا للمساءلة.
- تسهيل التحرك والتنقل بين الأجزاء المتأخرة وتلك المتقدمة. في المتوسط، لدى سكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قدرة على التحرك محليا تعادل نصف قدرة الأشخاص في أنحاء أخرى من العالم. ويظهر بحثنا أن مستويات معيشة من يتنقلون بحرية إلى المدن الكبرى يمكن أن ترتفع بمعدل 37% في المنطقة. ويزداد احتمال انتقال النساء سعيا للعثور على وظائف في المناطق الحضرية، لكنهن بحاجة إلى الدعم للقيام بذلك. وينبغي إعادة توجيه أنظمة التعليم في جميع أنحاء المنطقة نحو المهارات المطلوبة في السوق.
- بناء المدن الكثيفة والمترابطة. تقدم المدن جيدة الأداء مجموعة واسعة من الوظائف - للنساء والرجال. ويعدّ زيادة كفاءة أسواق الأراضي في المدن أمرا بالغ الأهمية للتجمع والتخصص - وهما عنصران ديناميان يعززان توفير فرص العمل وتحقيق الازدهار الاقتصادي. وسواء في المدن الكبيرة أو الصغيرة (الثانوية)، يتطلب التجمع والتخصص الاستفادة من الكثافة الاقتصادية العالية، التي تركز النشاط الاقتصادي جغرافيا. لهذا، يجب أن يكون نسيج المدن متصلاً مكانيًا، كثيفًا من حيث عدد السكان، وموجهاً نحو دعم النقل الجماعي- وليس مترامي الأطراف مما يديم تشتت الناس وتفرق الوظائف. ويمكن للمخططين والمنظمين جذب الشركات للاستثمار في المدن عن طريق الحد من الاحتكاكات مثل لوائح تقسيم المناطق، والعراقيل التي تحول دون اقتناء العقارات وتشييد الأبنية الجديدة (التكلفة، وقيود الارتفاع، وقيود الكثافة)، والتحديات التي تواجه تسجيل الشركات المحلية والتراخيص، والقيود على الأخبار والمعلومات، والعقبات أمام تطوير شبكات الأعمال المحلية.
- تعزيز النفاذ إلى الأسواق على المستويين الوطني والإقليمي. تاريخياً كانت مدن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا جزءًا من شبكات التجارة العالمية المهمة اقتصاديًا. استمر الكثير من هذه المدن في العصر الحديث كمناطق حضرية ضخمة. لكن حكومات المنطقة تمكنت من تقليص الشبكات من العالمية إلى المحلية. ويجب توسيع هذه الشبكات في الأبعاد الوطنية والإقليمية، على أقل تقدير. ومن النقاط الجيدة التي يمكن الانطلاق منها تحسين الروابط عبر الحدود الوطنية، مثل تخفيض الرسوم الجمركية، وتحسين الخدمات اللوجستية، وتسهيل التجارة، ووضع بروتوكولات للهجرة. وستؤدي هذه الجهود إلى نمو الاقتصادات، وتوفير الموارد التي تشتد الحاجة إليها لإعادة توزيعها إلى الأجزاء المتخلفة عن الركب.
بعبارة أخرى، يجب على حكومات المنطقة أن تبدأ في وضع آلية تقارب حديثة. والأجزاء الرئيسية من الآلية هي المؤسسات التي تحقق التكامل والبنية التحتية التي تساعد على الربط. فمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لم تعد منطقة فقيرة: في العام الماضي بلغ نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي في المنطقة حوالي 7000 دولار، مما يضعها بسهولة في الشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل. ويجب أن تتمتع شعوبها بالخدمات الأساسية الجيدة مثل التعليم والعيادات الصحية والصرف الصحي والأمن العام. ويمكن لمبادرات البنية التحتية التي يتم اختيارها جيدا - الطرق والسكك الحديدية والموانئ ومرافق الاتصالات - أن تتيح لرواد الأعمال إمكانية النفاذ إلى الأسواق الكبيرة في المنطقة (يبلغ إجمالي الناتج المحلي في المنطقة ثلاثة تريليونات دولار) بل والأسواق القريبة الأكبر في شمال المنطقة وشرقها. وربما تكون هناك حاجة أيضا إلى إجراءات تدخلية موجهة مكانيا، لكنها ليست المكونات الرئيسية للآلية.
ولعل أكبر خطأ ترتكبه الحكومات هو اعتبار هذه الإجراءات التدخلية - برامج لدفع عجلة النشاط الاقتصادي صوب الأجزاء المتأخرة مع تفضيل العواصم في الوقت نفسه – هي الركيزة الأساسية للآلية. لقد حان الوقت لوقف هذه الإجراءات التي تأتي بنتائج عكسية وتؤدي إلى تفاقم التفتت في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتسريع الجهود الرامية إلى تخطيط التكامل.
انضم إلى النقاش