تمتلك بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ولاسيما دول الخليج، قطاعات عامة كبيرة منذ وقت طويل. وفي إطار العقد الاجتماعي القائم، تقدم حكومات دول مجلس التعاون الخليجي مجاناً خدمات الرعاية الصحية والتعليم، فضلاً عن إعانات الضمان الاجتماعي ودعماً للإسكان وخدمات المرافق العامة لمواطنيها. بالإضافة إلى ذلك، لطالما حصل المواطنون على وظائف بالقطاع العام ذات أجور جيدة شبه مضمونة. وقد أدى ذلك إلى إبقاء معدلات البطالة منخفضة (لاسيما في سياق معدلات المشاركة المنخفضة تقليدياً في الأيدي العاملة بين مواطني دول الخليج) وكفل درجة عالية من التنمية والتماسك الاجتماعيين. فعلى سبيل المثال، وفقاً لمنظمة العمل الدولية، فإن معدلات البطالة في قطر (0.1%)، وعمان (1.8%)، والكويت (2.2%)، والإمارات (2.2%) تُعد من بين الأدنى في العالم.
وحتى عام 2014، ظل هذا العقد الاجتماعي مستقراً. وفي الفترة بين عامي 2010 و 2015، ونتيجة لارتفاع متوسط أسعار النفط إلى أكثر من 100 دولار للبرميل في اليوم وعلى خلفية أحداث الربيع العربي، تمكنت حكومات دول الخليج من زيادة المدفوعات الاجتماعية وأجور العاملين في القطاع العام بسرعة للحفاظ على التوازن القائم بينها وبين مواطنيها. ولكن ابتداء من عام 2015، ومع انخفاض أسعار النفط إلى نحو 60 دولاراً للبرميل، اتضح أن هذه البرامج السخية قد بلغت مستويات يتعذر الاستمرار في تحملها.
وسجلت معظم اقتصادات الخليج عجزاً كبيراً في القطاع العام سنوياً منذ عام 2015، مما اضطرها إلى السحب من المدخرات التي تراكمت خلال سنين الوفرة والانتعاش. وبعد ذلك، وفيما كانت الموازنة العامة واقعة تحت ضغوط كبيرة، جاءت جائحة كورونا لتؤدي إلى توقف الاقتصاد العالمي. وتحركت حكومات دول الخليج، شأنها شأن جميع بلدان العالم تقريباً، بسرعة لدعم مواطنيها ومؤسسات أعمالها أثناء الجائحة. لكن هذا لم يكن مجاناً. والآن، ومع تزايد عجز القطاع العام وأعباء الدين العام المفرطة، تدرس حكومات دول المجلس إمكانية إدخال تغييرات على بنود نفقاتها العامة لجعلها أكثر استدامة.
ويشير تحليلنا إلى أن لدى عديد من دول مجلس التعاون الخليجي نسبة مماثلة أو أقل من الموظفين العموميين للبلدان الإسكندنافية التي تشتهر بتقديمها للخدمات وتمتع مواطنيها "بنمط حياة فائقة التميز". غير أن دول الخليج تدفع لموظفيها المدنيين أكثر بكثير مما يمكنهم أن يتوقعوا الحصول عليه في القطاع الخاص. ويصدق هذا بشكل خاص على الوظائف عند المستوى الأول من الالتحاق بالعمل وذات المهارات المتدنية حيث يحصل الموظفون العموميون عادة على دخل أكبر بكثير من نظرائهم من القطاع الخاص.
وما زال القطاع العام يمثل مكان العمل الذي يفضله الكثير من مواطني دول مجلس التعاون الخليجي، وذلك لاقترانه بمنافع غير نقدية سخية، وإجازات طويلة، وساعات عمل أقصر. وهذا بدوره يثبت أنه بات يشكل عبئاً على الاقتصاد نظراً لأن القطاع الخاص يعاني من نقص في الأفراد المتعلمين ويضطر إلى دفع أجور أعلى للمواطنين أو إلى توظيف الوافدين من أجل تعويض هذا الفارق.
إن التصدي لهذه المشكلة سيتطلب اتباع نهج متعدد الجوانب، بدءاً بوضع ضوابط قوية للتوظيف وسقوف في الموازنة على المعاشات التقاعدية والأجور. ففي السعودية، على سبيل المثال، زادت مخصصات موظفي جهاز الخدمة المدنية دون ضوابط من 44 مليار ريال سعودي إلى 148 مليار ريال سعودي بين عامي 2016 و2019. وقد وظفت الكويت نحو ثلث موظفيها المدنيين في السنوات الخمس الأخيرة وحدها. وفي ظل قلة الموارد، اضطرت عمان إلى تقييد التعيينات الجديدة، وأحالت الحكومة جميع الموظفين الذين تزيد مدة خدمتهم على 30 عاماً إلى التقاعد. وتواصل عمان، في الوقت نفسه، تقديم معاش تقاعدي سخي يعادل 77% من الأجر النهائي، وهو ما يحول المشكلة فعلياً من فاتورة الأجور إلى نظام المعاشات التقاعدية (الفرق الوحيد هو أن عجز المعاشات التقاعدية سيظهر لاحقاً).
وبالإضافة إلى الضوابط قصيرة الأجل، يتعين على حكومات دول مجلس التعاون الخليجي تطبيق تدابير شاملة لإصلاح جهاز الخدمة المدنية، حيث تشير التجارب الدولية إلى أن الإصلاحات الناجحة تجمع بين التمتع بالحجم الصحيح للقطاع العام مع التركيز على الارتقاء بمستوى تقديم الخدمات والأداء. وعلى الرغم من ارتفاع مستويات الإنفاق على وزارتي الصحة والتعليم في دول المجلس، فإن نواتج الأداء المتوقعة لا تزال في حاجة إلى المزيد من التحسين. فعلى سبيل المثال، تنفق الكويت المبلغ نفسه الذي تنفقه فنلندا لكل طالب، لكن نواتج التعليم فيها تتساوى مع البلدان الأقل نمواً. وتنفق السعودية 5.2% من إجمالي ناتجها المحلي على التعليم مقابل 3.5% في البلدان مرتفعة الدخل، لكن طلابها لا يحصلون سوى على 7.8 سنوات من التعلّم على مدى 12.4 سنة يقضونها في الفصل الدراسي.
وعلى الرغم من صعوبة الأمر، يجب على حكومات دول الخليج العمل الآن لضبط فواتير الأجور الخاصة بها ووضعها على مسار مستدام. وسيتطلب ذلك تبني خطة إصلاح واضحة المعالم تعالج أوجه الترابط بين إصلاحات المالية العامة وجهاز الخدمة المدنية وسوق العمل، فضلاً عن وضع إستراتيجية تواصل فاعلة يمكنها إقناع المواطنين بحتمية الإصلاح. وفي ضوء الإنجازات المثيرة للإعجاب التي حققتها دول الخليج في السنوات الأخيرة، فإننا نعتقد أنها قادرة على الارتقاء إلى مستوى التحدي.
انضم إلى النقاش