نادرًا ما تندلع الصراعات المُسلَّحة وأعمال العنف بين عشية وضحاها، على الرغم من أن آثارها الظاهرة للعيان تأخذ الكثيرين على حين غرة منهم ومن حيث لم يحتسبوا. والأرجح أنها تنشأ نتيجة انقسامات راسخة وعميقة الجذور، قد لا تكون دائمًا واضحة أو مرئية لأنها تعود إلى عقود مضت - إن لم يكن أطول من ذلك. ويتطلب التخفيف الفعال من اندلاع الصراع أو التقليل من تكراره تحديد الأسباب الجذرية لأوضاع الهشاشة والصراع والعنف وتحليلها ومعالجتها، ويعني ذلك ليس مجرد النظر فيما يحدث ولكن تحديد أسبابه.
وتشير العوامل الهيكلية في سياق أوضاع الهشاشة والصراع والعنف إلى خصائص النظام العام التي تدعم تطور الأوضاع الاقتصادية والسياسية والمؤسسية والأمنية والمجتمعية لبلد ما. وهي تتراوح من الموروثات التاريخية والروايات إلى المعايير والقيم، وتشمل الجغرافيا، والتفاوتات المحلية، والاتجاهات الديموغرافية، وغيرها الكثير. وقد تكون هذه الصراعات في حالة غليان وتأجج تحت السطح، أو تعتبر كامنة، وكأنها بعيدة عما يحدث في الواقع أو حتى بديهية وواضحة من تلقاء نفسها، إلى الحد الذي يجعل المرء لا يستطيع تقييم تبعاتها وتداعياتها الكاملة في السياق الحالي.
وفي منطقة بحيرة تشاد، حيث يتأجج الصراع المسلح بسبب أوضاع الهشاشة والمظالم عميقة الجذور، كانت بعض الجماعات، مثل " سكان الجبال " من جبال مندارا وبودوما، محرومة من الحقوق تاريخيًا وما زالت تواجه عوائق مستمرة تحول دون تمثيلها في عمليات اتخاذ القرار وحصولها على حقوقها من عوائد التنمية. وتمثل الجغرافيا عاملاً آخر من العوامل الهيكلية المهمة. وكما هو موضح في تقييم المخاطر والقدرة على الصمود لمنطقة بحيرة تشاد، تقع هذه المنطقة - باستثناء العاصمة نجامينا - بعيدًا في مكان ناءٍ مما عمَّق الشعور بالعزلة السياسية إلى جانب التهميش الاقتصادي.
وتُخلِّف حالات الصراع المسلح السابقة وراءها موروثاتٍ تاريخيةً، حتى بعد مرور جيل أو أكثر على أحداث العنف. ويتلاشى أثر الصدمات، التي غالبًا ما تكون جماعية ومتوارثة من جيلٍ إلى آخر، من خلال الاعتراف بالأخطاء والمخالفات المُرتكبة، وتحقيق العدالة والتعويض عما فُقد. وبالإضافة إلى الناجين المباشرين وأسر الضحايا، يمكن لأحفاد هؤلاء والمجتمع بأسره التفكير في ذكريات أحداث العنف، وكيف تظل آثار التمييز والوصم بالعار عالقة في الأذهان، بعد فترة طويلة من وقوع هذه الأحداث التاريخية. والموروثات التاريخية تشكل الذكريات والهوية الجمعية. كما أن ذلك يساهم في الرواية التي يمكن من خلالها تفسير حصول الفرد على الفرص من منظور ما إذا كان ينتمي إلى مجموعة الجناة السابقين أم الناجين.
وتعمل أنماط الاستبعاد والإقصاء الكامنة والمستمرة والشعور بالظلم على تغذية المشاعر المحلية القوية وتعزيز الروايات الجماعية وتدعيم البُعد النفسي بشأن العناصر المهمة في المجتمع، ولكنّ العوامل الهيكلية في سياق أوضاع الهشاشة والصراع والعنف لا تحدد بالضرورة مسار الإقليم أو البلد أو المنطقة المحلية. وهي تشكل مقوِّمًا أساسيًا من تاريخ ونسيج السياق المعني، ومن ثم فإنها تشكل جزءًا أساسيًا من خصوصية هذا السياق. وهذا بدوره يجعل لزامًا علينا أن نفكر في الأسباب الجذرية، لا في العلاقة السببية المباشرة.
وهناك الكثير من الأمثلة على هذا. على سبيل المثال، تساهم الاختلالات الإقليمية مساهمة كبيرة في التفاوتات وعدم المساواة والمظالم. ويشير المحللون إلى أزمة الرعي التي تأتي في صميم مظالم الرعاة الرحل في منطقة الساحل، فضلاً عن النزعات ذات المحصلة الصفرية التي تحول دون تحقيق الشمول على نطاق أوسع. كما أن للتفاوتات وأشكال انعدام المساواة الإقليمية، بين المناطق الصحراوية غير الساحلية والمناطق الساحلية، تداعيات وتبعات كثيرة ومتباينة، لا سيما على التنوع الاقتصادي، وتشكيل الهوية، والعلاقات بين المناطق المركزية والمناطق النائية.
ومثال آخر هو الطريقة التي ساهمت بها أنظمة الحكم الموروثة من الحقبة الاستعمارية في استمرار أنماط النزاع والإقصاء في البيئات والأماكن المتأثرة بأوضاع الهشاشة والصراع والعنف. وتتضمن الأسئلة التوجيهية التي قد تفيد في فك هذه الروابط المتشابكة ما يلي: إلى أي مدى أثرت الإدارة الاستعمارية على المسارات المركزية أو الفيدرالية وتقاسم السلطة؟ هل حدث الاستقلال نتيجة لمفاوضات سلمية أم نتيجة لحرب العصابات العنيفة التي رسخّت أفكار "المنتصر يأخذ كل شيء" ويكون هو الحزب الحاكم والمسيطر على الجميع؟ هل الإنجازات الرئيسية شملت الجميع أم عددًا قليلاً فقط، وهل استفاد منها الجميع أم البعض فحسب؟
وأوضح تقرير تقييم المخاطر والقدرة على الصمود في غينيا الذي تم الانتهاء منه مؤخرًا تجربة البلاد مع أشكال مختلفة من الحكم، مثل الاشتراكية. فقد أثّر تعرّض البلاد لنماذج مختلفة تأثيرًا بالغًا على تطلع الغينيين إلى المساواة وعدم الرضا عن تقسيم المجتمع إلى طبقات اقتصادية، وهو أمرٌ لا يزال من الممكن ملاحظته حتى اليوم.
فكيف يمكننا أن نكيف منظورنا ليس فقط تجاه آخر تغيير غير دستوري للحكومة، بل وأيضًا لمراجعة السمات الأساسية التي حددت شكل فترة ما بعد الاستقلال بأكملها في أي بلد؟ ولا يمكننا معالجة الأسباب الجذرية لأوضاع الهشاشة والصراع والعنف ما لم نفهم سبب وقوع الأحداث. وهذا لا يساعد فقط على التخفيف من تأثيرها بشكل أكثر فاعلية، بل يساعد أيضًا على منع وقوعها مجددًا في المستقبل. ويستلزم التعرف على العوامل الهيكلية في سياق أوضاع الهشاشة والصراع والعنف تحديد أصحاب المصلحة والأطراف المعنية على نحو واضح وجلي أو تحليل الصراع مع الاعتراف بهذه الروابط المعقدة والمتشابكة، ودور التصورات الراسخة في أذهان السكان في تأجيج المظالم عميقة الجذور. وتماشيًا مع إستراتيجية مجموعة البنك الدولي للتعامل مع أوضاع الهشاشة والصراع والعنف، فإن ذلك يتطلب الاهتمام بما يلي:
- حشد مختلف التخصصات لفهم المجتمع ونقاط قوته والضغوط التي تُمارس عليه. فنادرًا ما تنشأ الصراعات المسلحة وأعمال العنف لمجرد الفشل الاقتصادي وأوجه التفاوت وعدم المساواة فحسب. بل على العكس من ذلك، فإنها تنجم من ديناميكيات السلطة، فضلاً عن عوامل الإقصاء والاستبعاد الفعلية والمتصورة. ولقياس كل هذه العوامل، علينا أن نفهم أن هيكل الاقتصاد، وتاريخ البلد المعني، وطبيعته الجغرافية، وثقافته، وتقسيماته الاجتماعية، كل ذلك يحدد أنماطًا راسخة ويتطلب التفكير خارج نطاق التخصصات التقليدية.
- تقييم تصورات السكان بوصفها مقاييس موضوعية للرفاهية والتنمية. وكما أظهر تقرير مسارات السلام لعام 2018، لا تقل التفاوتات والمفاهيم المتصورة عن الاستبعاد والإقصاء بين الجماعات أهميةً عن التفاوتات وأوجه عدم المساواة بين الأغنياء والفقراء، بل تفوقها أهمية في كثير من الأحيان. ويلعب الإدراك والمنظور الذاتي دورًا حاسمًا في تشكيل مشاعر الناس وتقييمهم للتفاوتات وعدم المساواة والإقصاء. ومن هذا المنطلق، لا يتعلق الأمر غالبًا بما حدث فحسب، بل بكيفية إدراكه وتفسيره واستيعابه وروايته من جانب الأشخاص الذين عايشوه. لذلك، غالبًا ما يكون التحدي الرئيسي الذي يواجه المختصين هو البيانات. وهذا يعني ببساطة، هل لدينا البيانات الصحيحة للدارسة والفحص على نحو أكثر عمقًا واتساعًا؟
- قبول الجوانب المركبة والديناميكية للصراع والمخاطر. غالبا ما نجد العوامل الهيكلية في سياق أوضاع الهشاشة والصراع والعنف ثابتة، ولكنها لا تقتصر على الماضي. كما أن التفاعل المستمر بين هذه السمات المتأججة والحاضر يجعلها "حية" وحاضرة دائمًا في ظل الأوضاع الهشة والمتأثرة بالصراعات.
وتوضح هذه الشبكة من الروابط بين الماضي والحاضر، والتجارب الهيكلية والأكثر حدة لتشكيل الدولة والمنازعات، أن المجتمعات لم يصبها الجمود بمرور الزمن، بل إنها تعيش وتتنفس وتتطور. كما أنها تتذكر ما مرت به. وبالإضافة إلى السمات المكانية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، تؤثر العوامل الهيكلية في سياق أوضاع الهشاشة والصراع والعنف على مسار الأحداث الذي يتأثر بما حدث عبر التاريخ بل وقد يصاب بالجمود، والأنماط السلوكية التي تتجلى وتتكرر عبر الزمن. وهي تقاوم التغيير، وفي بعض الأحيان تتراكم وتتكون بمرور الوقت، كالرواسب التي يخلفها مجرى النهر. وإذا لم ندمجها في نهج قائم على المخاطر وعملية مشاركة تفاعلية، فإننا، بصفتنا مختصين في مجال التنمية، نفقد الفهم العميق وسعة الأفق، وهما غاية في الأهمية لتشخيص الأسباب الجذرية لأوضاع الهشاشة والصراع والعنف ومعالجتها بشكل فعال.
انضم إلى النقاش