بعد ثورات عام 2011، واجهت بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا واقع عقدٍ اجتماعيٍ معيب أدَّى إلى تحطُّم العلاقات بين الدولة ومواطنيها. ومع نظر البلدان في الخيارات المتاحة لها على صعيد السياسات لما بعد انحسار جائحة كورونا، ها قد سنحت فرصة أخرى لإعادة التأمل في ذلك العقد وإعادة تصميمه وتجديده، والمضي قدماً لبناء مجتمع أفضل وأكثر تجانساً وتماسكاً.
في المُدوَّنة الأولى في سلسلة مُدوَّناتنا عن كيف يُمكِن للبلدان التغلُّب على جائحة فيروس كورونا (كوفيد-19)، قُلنا إن ازدياد معدلات الفقر، واشتداد مشاعر السخط وعدم الرضا عن ظروف المعيشة، وتدهور النواتج الاجتماعية والاقتصادية يجعل القيام بإصلاحات جريئة ضرورةً لا غنى عنها في المنطقة. وكان تراجع معدلات الرضا عن ظروف المعيشة قد أثار مشاعر الاستياء والسخط الاجتماعي في عام 2011 في وقتٍ كانت فيه مؤشرات الاقتصاد الكلي مطمئنةً على نحو مُضلِّل. ومع ضعف نواتج عملية التنمية الذي صاحبه تدنِّي مستويات الرضا عن ظروف المعيشة، ومشاعر خيبة الأمل والإحباط لدى الناس بسبب الجائحة أصبحت الحاجة إلى الإصلاح أكثر إلحاحاً.
فكيف ينبغي لنا أن نمضى قدماً في هذا الوضع؟
للإجابة عن هذا السؤال، لا يتعيَّن علينا أن ننظر بعيداً. إذ إن تقريرا للبنك الدولي نشر في عام 2018 يوضح بشكل مختصر أن مفتاح فهم ثورات 2011 يكمن في طبيعة العقود الاجتماعية التي كانت سائدة في المنطقة:
إن العقد الاجتماعي بين الحكومات والمواطنين الذي ظهر منذ الاستقلال كان في فحواه نوعا من المقايضة التي تحوم الشكوك حول فعاليتها ويتعذر الاستمرار في تحمل تبعاتها: فالدولة توفر الوظائف في القطاع العام، والتعليم والرعاية الصحية مجاناً، والغذاء والوقود المدعوم لجميع المواطنين. وفي المقابل، كان يُنتظَر من المواطنين ألا يرفعوا أصواتهم بالنقد أو الشكوى، وأن يتقبَّلوا درجةً من استحواذ النخبة والإكراه السياسي.
ومنذ أوائل العقد الأول من القرن الحالي، بدأت تلك العقود الاجتماعية التي عفا عليها الزمن في التصدع تحت وطأة اختلالات مزمنة في موازين المالية العامة. ولم يعد من الممكن الاستمرار في تحمل الأعباء المالية لنظام الدعم العام لمنتجات الطاقة والغذاء، وكان لابد من إصلاحه. ولم يعد القطاع العام جهة العمل المُفضَّلة، ولم يعد بمقدور الشباب التعويل على الوظيفة العمومية بعد التخرج من الجامعة. وبسبب تشوهات السوق واستحواذ النخبة، لم يستطع القطاع الخاص توفير وظائف كافية لاستيعاب الأعداد الكبيرة من الشباب الذين يلتحقون بالقوى العاملة. علاوةً على ذلك، وصلت أجيالُ جديدةُ إلى سن البلوغ؛ وهم يتمتعون بمستويات تعليمية عالية، ويتميزون بالانفتاح على العالم، والحرص على المشاركة في المناقشات العامة بشأن السياسات العامة. ونتيجةً لذلك، شهدت المنطقة بوجه عام بعضا من أعلى معدلات البطالة في بلدان العالم النامية، لاسيما بين الشباب والنساء. أضِف إلى ذلك، أنه مع أن خدمات التعليم والرعاية الصحية كانت مجانية، ومنتجات الطاقة والمياه ظلت مدعومة، فإن جودة هذه الخدمات كانت متدنية إلى درجة جعلت كثيرا من الناس يلتمسون الحصول عليها في القطاع الخاص. وكانوا يشعرون أنهم بحاجة إلى وسطاء للوصول إلى ذوي النفوذ للحصول على وظائف ذات جودة عالية، وأعرب كثيرون عن خشيتهم ألا يستطيعوا الترقِّي وتحسين أوضاعهم مهما اجتهدوا في العمل.
ومع استمرار هذه العقود الاجتماعية من خلال الإكراه، ولَّد الإقصاء مشاعر الغضب من الحرمان النسبي بين من لديهم صلات ومعارف بذوي النفوذ والسلطة من جهة ومن لا يتمتعون بهذه الصلات من جهة أخرى، وعزَّز انهيار العقد الاجتماعي أهمية الحريات، وخلق زخما وقوة دفع من أجل التغيير السياسي. (الصفحتان 12-13)
يصف هذا الجزء المختصر من تقرير 2018 الوضع قبل 2011، ولكنه يُردِّد أيضا صدى الأوضاع الحالية. ففي مختلف أنحاء المنطقة، يتعذَّر حاليا الحصول على وظائف جيدة، وبلغت معدلات البطالة مستوى مرتفعا على نحو غير مقبول، واختار كثيرون الانسحاب من القوى العاملة كليةً. ومازال العمال النشطين يشتغلون في الغالب في القطاع غير الرسمي. وتراجعت مستويات جودة الخدمات، ولا توجد مؤشرات تذكر على احتمال تحسنها، وبالتأكيد ليس في ظل جائحة كورونا. وتتسم المنطقة حاليا بمحدودية الفرص الاقتصادية، وتزايد أوضاع الفقر والعوز، وضعف بيئة الأعمال، ناهيك عن غياب تكافؤ الفرص. ويغلب استحواذ النخبة على الساحة الاقتصادية التي تهيمن عليها المؤسسات العامة والاحتكارات الخاصة. ولا عجب في أن مشاعر الإحباط المكبوتة تزداد مع تراجع مستويات الرضا عن ظروف المعيشة. ومازال العقد الاجتماعي على حاله الذي عفا عليه الزمن كما كان قبل عشرة أعوام.
ويُمكِن استخلاص ثلاثة دروس مهمة من هذا التحليل للاسترشاد بها في التفكير في كيفية إعادة البناء بعد انقضاء أزمة جائحة كورونا:
أولا، إن تغيير العقد الاجتماعي لا يقل إلحاحاً اليوم عن أي وقت مضى، ويجب القيام به مع تعافي البلدان من الجائحة. ويقترح التقرير المذكور آنفا أين تكون البداية. فهو يُظهِر كيف أن رضا الناس عن ظروف المعيشة يرتبط ارتباطا قويا بجودة الخدمات، والحرية في اتخاذ قراراتهم المصيرية، وتصوراتهم عن الفساد، والرفاهة الاقتصادية. وتتطلب إعادة التفكير في العقد الاجتماعي وتجديده الحد من الفساد، وتعزيز الشفافية، والأهم من ذلك كله، إتاحة المزيد من الفرص الاقتصادية الشاملة للجميع وتحسينها.
ثانيا، إن الحرب الأهلية لا تؤدي إلى تحسُّن النواتج. وكذلك، فإن الثورة السياسية لا تكفل إحداث تحسينات في العقد الاجتماعي. ومن شأن تعزيز المشاركة السياسية في عملية اتخاذ القرارات أن يحسن مستوى رضا الناس عن ظروف المعيشة، ولكن يصعب تحقيق هذه التغييرات بدون تعاون أصحاب المصالح المترسخة الذين يمتلكون القدرة على إثارة عدم الاستقرار. ومن المصلحة المستمرة في الأمد الطويل لكل الجهات المعنية، ولاسيما من هم في مراكز السلطة سواء في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أن ينفتحوا ويمهدوا الطريق لانضمام أجيال جديدة من المفكرين ورواد الأعمال.
ثالثا، أن التغيير التدريجي في الاستجابة لمشاعر الاستياء الشعبي ليس بديلا جذابا. فالعديد من بلدان المنطقة تشهد تراجع معدلات الرضا عن ظروف المعيشة إلى مستويات أقل كثيرا مما كانت عليه في عام 2010 (انظر الشكل البياني). ويبدو أنه لم ينجُ من هذا الاتجاه إلا قلة من البلدان (مثل المغرب)، وهو ما يشير إلى أنه يمكن استخلاص شيء من هذه البلدان.
فمع بحث البلدان في سبل التعافي من الجائحة، يجب أن تفعل هذا على نحو يؤدي إلى تحسين عقدها الاجتماعي. ولم تؤد الثورات التي جانب الصواب تسميتها "الربيع العربي" إلى نجاح يُذكر، ولا إلى تحسين العقد الاجتماعي. وحتى البلدان التي استجابت بإجراء إصلاحات تدريجية كانت غير ناجحةً إلى حد كبير. وبعد زوال جائحة كورونا، لابد أن تتبع البلدان نهجا أكثر فعالية لتحسين العقد الاجتماعي. ويتطلب هذا السير بخطى حساسة. فالإصلاحات يجب أن تكون سريعة بدرجة كافية لإرضاء المواطنين الساخطين في المنطقة - لاسيما الشباب والنساء منهم - لكن سيتعين تصميم التغيير تصميما جيدا حتى لا يلقى مقاومة من النخب ذات النفوذ.
ويقف البنك الدولي على أهبة الاستعداد للمساعدة في البناء من أجل المضي قدما وعلى نحو أفضل في مختلف أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وسنستمر في اتباع نهج ذي شقين: التعامل مع "الحاجة الملحة الشديدة الآن" والتخطيط للمدى المتوسط والأطول. وفيما يتصل بالاستجابة الفورية، نقوم بمساعدة البلدان في تجاوز الأزمة بتقديم تمويل قصير الأجل، وبالاستثمار في مشروعات طارئة في مجال الصحة والحماية الاجتماعية، ومع زملائنا في مؤسسة التمويل الدولية، بالسعي لضخ تمويل تشتد الحاجة إليه في منشآت الأعمال الصغيرة والمتوسطة الحجم للحيلولة دون انهيارها.
في المدونات القادمة من هذه السلسلة، سنستطلع كيفية تصميم إصلاحات تصب في مصلحة الجميع من أجل زيادة إنتاجية أشد الفئات فقراً، وتحسين جودة الخدمات المقدمة. وسيتم التركيز على الناس الذين هم في أسفل الهرم الاقتصادي، واتخاذ القرارات على أساس البيانات، والتحوُّل الرقمي، وإيجاد جهاز بيروقراطي فعال من أجل تسليط الضوء على الإصلاحات التي يمكن أن تؤدي إلى تحسين معيشة الأغلبية وتحظى بالدعم السياسي اللازم لنجاحها.
إن هذه هي المدونة الثانية من سلسلة مدونات لفريد بلحاج (نائب رئيس البنك الدولي لشؤون منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) بشأن ما يمكن أن يفعله البنك الدولي لمساعدة البلدان في التغلب على جائحة فيروس كورونا وتداعياتها الاجتماعية والاقتصادية. واشترك في كتابة هذه المدونة يوهانس هوغيفين مدير قطاع الممارسات العالمية للفقر والإنصاف بالمنطقة.
انضم إلى النقاش