ضربت جائحة كورونا (كوفيد-19) الكثير من الاقتصادات النامية في خضم ارتفاع مستويات عدم المساواة وانخفاض الحراك الاجتماعي، كما سلطت مزيداً من الضوء على جوانب عدم المساواة تلك. وتحمل الجائحة بين طياتها أيضاً مخاطر جسيمة على الإنصاف والحراك الاجتماعي في الأجل الطويل وفقاً لما عرضناه في ورقة بحثية حديثة، وذلك باللجوء للشواهد المستقاة من الأزمات السابقة والأفكار الأولية المستقاة من البيانات التي تم جمعها خلال هذه الجائحة.
وما يقوله الماضي معروف: فالجوائح والأوبئة لا تصب في مصلحة جهود القضاء على عدم المساواة
لقد توصلت دراسة حديثة حول التأثيرات التي خلفتها خمس جوائح وقعت بين عامي 2003 و 2016 إلى أن مستويات عدم المساواة في الدخل في البلدان المتضررة زادت في المتوسط بشكل مُطّرد على مدى السنوات الخمس التي أعقبت كل جائحة منها، وكانت التأثيرات أشد عندما أدت الأزمة إلى انكماش في النشاط الاقتصادي، كما هو الحال تماماً مع جائحة كورونا.
وربما تقلل التقديرات التاريخية من التأثيرات المحتملة لجائحة كورونا في الأجل الطويل بالنظر إلى التأثيرات الأكبر الواقعة على الدخل من جراء هذه الجائحة. وخمس سنوات بعد مرور الجائحة فترة قريبة أيضاً ولا تكفي لظهور التأثيرات الكاملة على عدم تكافؤ الفرص والحراك الاجتماعي. ويؤدي انخفاض الحراك الاجتماعي، أو الثبات الأكبر في نواتج مثل التعليم والدخل عبر الأجيال، إلى إعاقة تقدم المجتمع من خلال إدامة عدم المساواة، والحد من النمو الاقتصادي والتماسك الاجتماعي بمرور الوقت.
ماذا تظهر الشواهد الأولية: جائحة كورونا تؤثر أكثر ما تؤثر على الفئات الأشد فقراً مما يزيد من عدم المساواة
تشير التوقعات قصيرة الأجل الصادرة عن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إلى أن معدلات الفقر المدقع في جميع أنحاء العالم وعدم المساواة في الدخل للاقتصادات ذات الدخل المنخفض واقتصادات الأسواق الصاعدة من المرجح أن تزداد في عام 2020. وداخل البلدان ذاتها، تشير البيانات الأولية إلى أن التأثيرات الناجمة عن جائحة كورونا في سوق العمل غير متكافئة بشكل ملفت للنظر، وتتنوع حسب خصائص كل من الوظائف والعمال والشركات. وتبين البيانات المستقاة من لوحة البيانات الإلكترونية لجائحة كورونا أن احتمال أن يتوقف العاملون الحاصلون على تعليم جامعي عن العمل يقل مقارنة بمن هم أقل تعليماً في معظم البلدان، وأن النساء المشاركات في المسح الاستقصائي أكثر عرضة للتوقف عن العمل مقارنة بالرجال. وكان معدل فقدان الوظائف هو الأعلى في الصناعة والخدمات الحضرية التي تتيح في العادة وظائف لا تتلائم في طبيعتها مع العمل من المنزل إلا في أضيق الحدود. وتظهر المسوح الاستقصائية الهاتفية الخاصة بالشركات زيادة احتمال تأخر الشركات متناهية الصغر والصغيرة عن الوفاء بالتزاماتها المالية مقارنة بالشركات الكبيرة. وبالتالي، فإن وقوع خسارة مؤقتة لإيرادات هذه الشركات يمكن أن يتحول إلى تآكل أطول أجلاً في الوظائف ورأس المال التجاري، الأمر الذي يؤثر بشكل غير متناسب على العمال من الشباب، أو من أصحاب المهارات المحدودة، أو ممن لا يمكنهم الحصول على رأس المال.
ومن المرجح أيضاً أن يلحق تعطيل الدراسة الضرر بالفئات الأشد فقراً. ففي إثيوبيا ونيجيريا، على سبيل المثال، كان احتمال أن يكون لدى أغنى 20% من الأسر المعيشية أطفال يشاركون في نشاط تعليمي بعد إغلاق المدارس أكثر من أفقر 20% من الأسر المعيشية.
ماذا نتوقع في المستقبل: ثلاثة أسباب تدعو للقلق بشأن تزايد عدم المساواة في الأجل الطويل
تشير الشواهد المستقاة من الكوارث السابقة إلى أن تأثيرات الرفاهة يمكن أن تكون أكبر على الأسر المعيشية الأشد فقراً فحسب، كما أن التعافي بعد الصدمة يمكن أن يكون أبطأ (الشكل 1). نرصد حالياً ثلاثة أسباب للقلق، وما لم تتم معالجتها، فإن هذا النمط سيتحقق بالنسبة لهذه الأزمة أيضاً.
- على الرغم من أن فترة الركود غير معروفة حالياً، فإن الشواهد تشير إلى تأثيرات طويلة الأجل لفقدان الوظائف. ويمكن أن تؤدي فترة بطالة للوافدين الجدد إلى سوق العمل إلى انخفاض دخلهم مدى الحياة بسبب فقدان زمن اكتساب الخبرة (المحتمل) وانخفاض قيمة المهارات والتأثيرات الدائمة التي يمكن أن تكون شديدة بشكل خاص على العمال من الأسر المعيشية الأفقر وأيضاً على أصحاب المهارات المحدودة. ولأسباب مماثلة، يمكن أن يكون لارتفاع معدل فقدان الوظائف بين النساء تأثير مستمر على تشغيل النساء وأيضاً على أجورهن.
- إن الاستراتيجيات التي تلجأ إليها الأسر الفقيرة للتكيف مع فقدان الدخل مكلفة على المدى الطويل. وتُظهر الشواهد من الكوارث السابقة أنه عندما تتعرض الفئات المحرومة للصدمات، فمن الأرجح أن تلجأ إلى استراتيجيات للتكيف مثل تقليل استهلاك الغذاء وبيع الأصول المنتجة، مما يؤدي إلى انخفاض التراكم في رأس المال البشري والمادي. وللحرمان الغذائي للأطفال والأمهات عواقب وخيمة على المدى الطويل. وتظهر البيانات المستمدة من المسوح الاستقصائية الهاتفية في 33 بلداً أن خفض الاستهلاك هو استراتيجية التكيف الأكثر شيوعاً التي تستخدمها الأسر للتعامل مع حالات فقدان الدخل المرتبطة بجائحة كورونا، وتتبناها نحو 40% من الأسر المعيشية في المتوسط. وهذا ما تؤكده الدرجة العالية من انعدام الأمن الغذائي التي بينتها المسوح الاستقصائية، حيث استغنى أحد الأفراد في نصف الأسر المعيشية في المتوسط في البلدان الأشدّ فقراً عن تناول وجبة واحدة يومياً على الأقل في الشهر الماضي بسبب نقص الموارد.
- سيكون لتعطيل الدراسة تأثيرات طويلة الأجل في معظم البلدان منخفضة الدخل التي شملتها المسوح الاستقصائية الهاتفية، أكمل الأطفال في أقل من 30% من الأسر المعيشية واجباً دراسياً واحداً على الأقل طلبه المدرس منذ إغلاق المدارس. وتشير البيانات الأولية الواردة من البلدان مرتفعة الدخل (مثل بلجيكا وهولندا) إلى خسائر كبيرة في التعلم تزيد من عدم المساواة في التعليم. وتشير نماذج المحاكاة التي أجراها البنك الدولي إلى أن حوالي 0.6 سنة من الدراسة بحسب جودة التعلم ستضيع على مستوى العالم بسبب عمليات إغلاق المدارس المرتبطة بجائحة كورونا ، مع حدوث جزء كبير من الخسائر فيما بين الأطفال في الأسر الأكثر احتياجاً. ويمكن أن يكون لخسائر التعلم تكاليف طويلة الأجل لا يمكن تعويضها للأفراد والمجتمع على حد سواء. وتشير الشواهد المستمدة من الكوارث الماضية إلى أن اضطراب الدراسة ووقع الصدمات يمكن أن يؤثران سلباً على التعلم وأن يفضيان إلى فوارق يمكن ملاحظتها في سنوات لاحقة. وتظهر إحدى الدراسات انخفاض مستوى التحصيل التعليمي لدى الأشخاص في الشريحة العمرية 14 و17 عاماً أثناء انتشار جائحة شلل الأطفال في عام 1916 في الولايات المتحدة مقارنة بأقرانهم الأكبر سناً الذين أكملوا تعليمهم بالفعل. أيضاً، ونظراً لأن الأسر المعيشية الأكثر احتياجاً في البلدان النامية تعاني من فقدان الدخل، وخاصة بعد إغلاق المدارس، فقد يقل احتمال عودة أطفال بعضها إلى المدرسة مرة أخرى بعد انحسار الجائحة.
وضع السياسات من منظور الإنصاف هو مفتاح التخفيف من زيادة عدم المساواة
هناك حاجة إلى تركيز قوي على التصدي لعدم المساواة. إن أي تخفيف للتفاوتات قصيرة الأجل في التأثيرات من شأنه تخفيف العبء على السياسات لسد الفجوات الأطول أجلاً التي خلقتها مظاهر عدم المساواة الماضية. وفي مرحلة التعافي على المدى المتوسط إلى الطويل، سيكون الهدف الشامل للسياسات هو تعزيز التعافي الدائم والشامل وبناء القدرة على الصمود فيما بين الفئات الأكثر احتياجاً في مواجهة الأزمات المستقبلية، والتي من المحتمل أن تكون مجالات السياسة التالية حاسمة بالنسبة لها:
- تعزيز الاستثمارات في قطاعي الصحة والتعليم، خاصة في سن مبكرة وللأطفال. سيشمل ذلك تدخلات لمساعدة الأطفال وأولياء الأمور في العودة إلى المدارس عن طريق منع التسرب الدراسي وتوفير الدعم التعليمي لأولئك الذين تخلفوا عن الركب.
- تكافؤ الفرص في سوق العمل. يمكن تسهيل عودة العاطلين عن العمل إلى الوظائف، بما في ذلك وظائف النساء والشباب، من خلال سياسات سوق العمل النشطة والتدريب ، وإتاحة خدمات رعاية الأطفال بأسعار معقولة وتحسين سياسات عطلة الوالدين.
- تعزيز القدرة على الحصول على الخدمات المالية والتكنولوجيا. من شأن تشجيع المنتجات المالية منخفضة التكلفة وتحسين المعلومات المالية وتعزيز الوصول إلى البنية التحتية الرقمية والتكنولوجيا، أن يساعد الشركات متناهية الصغر والصغيرة التي تلعب دوراً حاسماً في إعادة الوظائف للعمال الأكثر احتياجاً، على مواصلة أنشطتها التجارية وزيادة قدرتها على المنافسة.
- الاستثمار في شبكات الأمان والضمان الاجتماعي. إن الدعم السريع للأسر المعيشية لحمايتها من فقدان ما بحوزتها من أصول بشرية ومادية أثناء الأزمة يتطلب الاستثمار مقدماً في وضع الأسس الضرورية التي تتيح إمكانية توسيع مظلة شبكات الأمان عند الحاجة إليها مثل السجلات الاجتماعية وأنظمة الدفع عبر الهاتف المحمول والتقييم المستمر للمخاطر التي يواجهها بلد ما.
إن الوقت الذي تتم فيه إعادة بناء الاقتصادات هو الوقت المناسب لإعطاء الأولوية لتحقيق الاحتواء والإنصاف وبناء القدرة على الصمود في وجه الكوارث المستقبلية. وقد أكدت جائحة كورونا أيضاً ضرورة أن يشمل وضع سياسات المالية العامة تخطيط سبل زيادة الإنفاق في حالة حدوث أزمة لمساعدة الأسر المعيشية على تجاوز تأثيراتها. إلا إن الطريقة الناجعة والفعالة من حيث التكلفة لجعل مجتمعاتنا قادرة على الصمود في وجه الأزمات المستقبلية تتمثل في مواجهة التفاوتات الهيكلية التي نواجهها اليوم عن طريق تضييق الفجوات القائمة في القدرات والإمكانيات بين الأغنياء والفقراء في المجتمع.
روابط ذات صلة
مجموعة البنك الدولي وفيروس كورونا (كوفيد-19)
كوفيد وعدم المساواة: مراجعة للأدلة على التأثير المحتمل وخيارات السياسة
انضم إلى النقاش