لا شك أن تنظيم سوق العمل يمكن أن يكون مسألة محل خلاف كبير. فتدخلات مثل قواعد وقوانين الأمن الوظيفي والحد الأدنى للأجور لا تسلط الضوء على الفروق الإيديولوجية حول دور الحكومة والعقد الاجتماعي بين رأس المال والعمالة فحسب، بل إنها تؤثر تأثيراً مباشراً في سبل كسب العيش للسكان.
وفي النهاية، فإن التحدي يتمثل في تحقيق التوازن الصحيح بين تهيئة ظروف العمل اللائقة ومستويات الدخل المناسبة للموظفين والسماح لأصحاب العمل بالمرونة لإدارة أعمالهم بكفاءة وبتكلفة معقولة. وفي حين لا يمكن استبعاد الجانب السياسي، فمن الممكن أن يوفر التحليل الدقيق المعزز بالبيانات المعلومات لعملية وضع السياسات، وذلك من خلال توضيح الآثار المحتملة لمختلف الخيارات التنظيمية على النواتج الاجتماعية والاقتصادية المهمة. ويُتاح لمتخذي القرار في البلدان مرتفعة الدخل إمكانية الاطلاع على مجموعة شاملة وآخذة في الاتساع من البحوث للاسترشاد بها في مداولاتهم بشأن تنظيم سوق العمل.
ماذا عن البلدان النامية؟ تعاني البلدان النامية من نقص كبير في الدراسات التحليلية، ولكنها تشهد حالياً إجراء المزيد من البحوث. وتشير الشواهد والأدلة المتوفرة لدينا حالياً إلى قيام عديد من البلدان النامية بوضع قواعد لسوق العمل بحيث توفر شكلاً من الحماية للعمال المشمولين بالتغطية من دون فرض تكاليف كبيرة على الشركات أو الاقتصاد. بيد أنه تجدر الإشارة إلى أن الأمر ليس كذلك دائماً. لنأخذ مثلاً مسألة الحد الأدنى للأجور. ففي العديد من البلدان النامية، يتم تحديد الحد الأدنى للأجور فوق متوسط القيمة المضافة لكل عامل، مما يخلق بدوره حافزاً قوياً لدى أصحاب العمل للتحايل على القانون. كما أن هناك بلداناً أخرى لا تطبق أي حد أدنى للأجور نهائياً.
علاوة على ذلك، ثمة اعتباران فريدان عند النظر في تنظيم سوق العمل في البلدان النامية. الأول هو أن هذه السياسات، المُعتمدة من نماذج صناعية قائمة على العمل بأجر، لا تسري فعلياً إلا على جزء صغير جداً من الأيدي العاملة في البلدان النامية. ففي البلدان منخفضة الدخل مثل إثيوبيا وتنزانيا، على سبيل المثال لا الحصر، فإن أكثر من 80% من السكان العاملين إما يعملون لحسابهم الخاص أو يشاركون في أعمال عائلية، وبالتالي لا يمكن تطبيق قواعد الأمن الوظيفي والحد الأدنى للأجور واللوائح التنظيمية الأخرى عليهم بأي شكل من الأشكال. وتنطبق النقطة ذاتها حتى في البلدان متوسطة الدخل: ففي المغرب، على سبيل المثال، لا يشكل العاملون بأجر سوى نصف العمالة.
أما الاعتبار الآخر فيتمثل في أنه حتى في الأجزاء الأكثر تنظيماً من أسواق العمل في البلدان النامية، فإن الامتثال للقواعد والإجراءات التنظيمية يشكل تحدياً جسيماً. ويمكن لأصحاب العمل الذين يرغبون في تجنب تحمل تكاليف الامتثال لقوانين العمل، وكذلك الموظفين الذين يفضلون زيادة صافي أجورهم المقبوضة إلى أقصى حد أن يعملوا "خارج القطاع الرسمي" بقدر أكبر من السهولة. ففي معظم البلدان النامية، على سبيل المثال، يحصل ما بين ربع ونصف العاملين بأجر على أقل من الحد الأدنى القانوني للأجور.
ويعكس تدني مستوى الامتثال في جانب منه تكاليف قواعد العمل وبرامج الحماية الاجتماعية الممولة من ضرائب الأجور، وهو ما قد يخلق حوافز سلبية أمام التحوّل إلى الاقتصاد الرسمي. كما أنه يعكس المنافع غير المؤكدة التي توفرها سبل الحماية الموجودة. ولنأخذ مثلاً الالتزامات المرتفعة لمكافآت نهاية الخدمة في بعض البلدان: فهي ليست باهظة التكلفة لأصحاب العمل، ومن ثم تؤدي إلى تثبيط التوظيف في القطاع الرسمي فحسب، بل أنها في نهاية المطاف قد تقدم منافع ضئيلة أو معدومة للموظفين الذين يفقدون وظائفهم. ويرجع ذلك إلى ضعف درجة الامتثال والإجراءات باهظة التكلفة لضمان إنفاذها. وعادة ما يكون التأمين ضد البطالة بديلاً أفضل لتعويض من يفقدون وظائفهم.
وواقع الأمر أن ضعف قدرات الإنفاذ يشكل عقبة خطيرة أمام تحقيق فعالية القواعد المنظمة لسوق العمل في البلدان النامية. فنسبة المفتشين إلى السكان العاملين في هذه البلدان تكون في أحوال كثيرة أقل بواقع 3-10 أمثال (بل وأحياناً أسوأ كثيراً) مما هي عليه في البلدان الأوروبية. وعلاوة على ذلك، فإن هذا لا يأخذ في الحسبان جودة عملية الإنفاذ عندما يقوم المفتشون بمتابعة أماكن العمل.
وفي نهاية المطاف، فإن أكبر تحدٍ في تنظيم أسواق العمل في البلدان النامية هو ما ينبغي عمله بشأن مئات الملايين من العمال (أو حتى أكثر) الذين لا تسري عليهم قواعد سوق العمل والحماية الاجتماعية الرسمية. وفي وقت من الأوقات، كان من المفترض أن يسري نموذج التنظيم الخاص بالبلدان الصناعية مع مرور الوقت على المزيد من أسواق العمل في البلدان النامية. لكن من الواضح الآن أن هذا يحدث ببطء شديد للغاية، إن كان يحدث أصلاً.
وهناك حاجة إلى اعتماد نُهُج جديدة توفر سبل حماية اجتماعية شاملة للعمالة في مختلف أشكال التوظيف القائمة في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل. وقد كشفت هشاشة وضع الكثير من تلك العمالة خلال الثمانية عشر شهراً الماضية مدى خطورة هذا الوضع.
هذه نسخة منقحة من مقال نُشر أولاً في صحيفة IZA Opinions.
روابط ذات صلة
استجابة مجموعة البنك الدولي لوباء كوفيد-19
الوظائف في صدارة التنمية: تغيير الاقتصاد والمجتمع عبر توفير فرص عمل مستدامة
انضم إلى النقاش