على مدى قرون، وفرت المدن ملاذًا للملايين من الفارين من الحروب والمجاعات وغيرها من الصدمات. لكن المدن نفسها مُعرضة للصدمات الناجمة عن الاكتظاظ والمرض والعنف والاضطرابات الاجتماعية. فما مدى نجاح المدن في البلدان النامية في امتصاص الصدمات؟ نبحث الإجابة على هذه الأسئلة في تقريرنا الجديد المعنون "مدن نابضة بالحياة".
كانت عشرينيات القرن الحادي والعشرين حقبةً من الصدمات، وليست جائحة كورونا والتضخم وتغير المناخ والاضطرابات الاجتماعية سوى أبرز هذه التحديات. وفي البلدان النامية، لم تكن المدن فعالة في امتصاص الصدمات. ودعونا نتأمل أربع مجموعات من الشواهد والأدلة:
- كانت الآثار الاقتصادية لجائحة كورونا أسوأ في المدن المُبَينة في الشكل أدناه: فالمرض وتدابير احتوائه أضرت بالنشاط الاقتصادي الحضري في كل مكان. وعانت المدن في البلدان النامية من شدة الانكماش الاقتصادي وبطء التعافي أكثر مما عانت منه المدن في البلدان المتقدمة.
الشكل 1: تضرر المدن في البلدان النامية من جائحة كورونا أكثر من غيرها
المصدر: خان وآخرون 2022.
- أدى الاكتظاظ إلى تفاقم مخاطر العدوى بفيروس كورونا. يعيش أكثر من 35% من سكان المناطق الحضرية في البلدان النامية في أحياء فقيرة. ويُعد الاكتظاظ السكاني سمةً تميز العديد من المدن في هذه البلدان، حيث يعيش الناس في مساكن دون المستوى المطلوب، ويفتقرون إلى المساحات المفتوحة، كما أن البنية التحتية عديمة الكفاءة. وببساطة، لم يكن لدى معظم الناس القدرة على التباعد الاجتماعي في أثناء الجائحة، مما أدى إلى وجود "بؤر العدوى الساخنة" (الشكل 2).
الشكل 2: الاكتظاظ يؤدي إلى تفاقم بؤر تفشي فيروس كورونا في كينشاسا
ملاحظة: يمثل اللون كثافة البؤرة الساخنة، فاللون (الأصفر) يشير إلى الكثافة المنخفضة و(الأحمر) يشير إلى الكثافة المرتفعة، لكن جميع النقاط الساخنة موجودة بالفعل في مواقع ترتفع فيها المخاطر
المصدر: لال ووهبة 2021.
- تُسببُ ضرباتُ الطبيعة أشدَ الضرر للمدن في البلدان النامية: فالفيضانات تتسبب في إعاقة النشاط الاقتصادي، ويكون تأثيرها أشد في المدن في البلدان النامية - حيث تقل الأضواء الليلية (وهي مؤشر بديل للنشاط الاقتصادي) بنسبة 8.3% مقارنة بنسبة 1.4% فقط في البلدان مرتفعة الدخل. وفي العاصمة الأردنية عَمَّان، يُعد أكثر من نصف الأسر المعرضة للمخاطر من ذوي الدخل المنخفض وليست لديهم القدرة الكافية على مواجهة أخطار الفيضانات. ومن المحتمل أن تتعرض نحو 66,900 أسرة في عَمَّان لفيضانات الأمطار، منها 34,300 أسرة منخفضة الدخل. وفي أكرا، تتسبب الفيضانات في خسائر فادحة في ممتلكات نسبة كبيرة من الأسر الفقيرة، على الرغم من أن احتمال تعرض هذه الأسر للفيضانات ليس أكبر مما هو عليه بالنسبة للأسر غير الفقيرة. (الشكل 3).
الشكل 3: فيضانات أكرا تؤدي إلى خسائر فادحة في ممتلكات نسبة كبيرة من الأسر الفقيرة
المصدر: إرمان وآخرون 2018.
- تستحوذ النخب والمقربون من السلطات على المنافع الاقتصادية. ففي 14 حيًا من الأحياء الفقيرة في بنغالور بالهند، كان الاستثمار في تعليم الأطفال هو الأولوية القصوى للأسر، وعادة ما يكون حظ أطفال الأحياء الفقيرة من التعليم أفضل من آبائهم. أما الأحياء الفقيرة في جاكرتا، فقد تحسن مستوى التحصيل الدراسي لأطفال الأسر التي تعيش فيها. ومع ذلك، فإن تحسين مستوى التعليم لا يعني زيادة القدرة على التنقل الوظيفي في الهند أو إندونيسيا، حيث يعمل معظم سكان الأحياء الفقيرة - وخاصة النساء - في الأحياء الفقيرة. كما أنهم لا يستطيعون الحصول على وظائف مجزية في القطاع الرسمي لأنهم لا يمكنهم الوصول إلى شبكات توظيف أفضل، وغالبًا ما يكونون معزولين عن مراكز المدن. ويواجه سكان الأحياء الفقيرة أيضًا قدرًا كبيرًا من احتمال الانتقال إلى وظائف أقل في ميزاتها إذا مرضوا أو تعرضوا لصدمات أخرى.
ما الذي يمكن أن تفعله هذه المدن لتصبح أفضل قدرة على امتصاص الصدمات؟ على مر السنين، تمت التوصية بتنفيذ العديد من السياسات، منها إنشاء أسواق رسمية للأراضي والعمل، وربط الأحياء بكفاءة، وتوفير الخدمات الأساسية على نحو أكثر إنصافًا، وغيرها من السياسات. ومع وجود صعوبة في تنفيذ بعض هذه السياسات، وإن كان بعضها أقل صعوبة، ناهيك عن التكلفة الباهظة من الناحية الفنية، فالعديد من مدن البلدان النامية لا تقوم حتى بالإصلاحات والاستثمارات الأساسية. فما هي الأسباب؟
في تقريرنا المعنون مدن نابضة بالحياة، بحثنا كيف يمكن صياغة العقود الاجتماعية من خلال الثقة والشرعية، أي ما يتوقعه المواطنون من الموظفين العموميين، وسلوكيات المواطنين تجاه هؤلاء الموظفين، وبدون الشرعية يقل التزام الأشخاص باللوائح التنظيمية، ويكون الإنفاذ أكثر تكلفة - وغالبًا ما يكون غيرُ مُجدٍ - مما يجعل الإصلاحات غير فعالة إلى حد كبير. ومن غير الثقة، من المرجح أن يلجأ المواطنون إلى اتخاذ إجراءات تحقق منافع فردية على حساب المجتمع ككل - مثل الحصول على الرشاوى، والتهرب من أداء الواجبات العامة، وإلقاء النفايات بشكل غير قانوني، والتعدي على الأراضي، وما إلى ذلك.
وفي ولاية سيارا بالبرازيل، اغتنمت المدينة فرصة إجراء انتخابات بلدية تنافسية من أجل تقديم خدمات صحية أفضل. وأنشأ المسؤولون عن إدارتها ممن لديهم برامج إصلاحية كادرًا جديدًا من العاملين في مجال الصحة العامة، الذين نجحوا في تحسين النواتج الصحية للولاية إلى حد كبير. وقدموا لوسائل الإعلام الإخبارية معلومات ثرية عن قيمة الصحة العامة ودور الكادر الجديد، مما خلق توقعاتٍ ومطالب للجمهور من الموظفين العموميين. وقد ساعد ذلك على ترسيخ (ومكافأة) التزام المسؤولين المنتخبين بالإصلاح وغرس شعور بالمهنية لدى العاملين في مجال الصحة العامة مدفوعًا بضغوط الزملاء والمنافسين لتحسين الأداء.
وتحتاج المدن أيضًا إلى تدعيم قدراتها المالية العامة لتمويل برامجها الاستثمارية والإصلاحية. ويُعد الحجم الهائل للتمويل اللازم للبنية التحتية في المناطق الحضرية من السمات المميزة لعملية وضع السياسات الخاصة بالمناطق الحضرية، مما يضيف تكاليف تشغيل طويلة الأجل إلى النفقات الرأسمالية الأولية. وفي المغرب، نجحت مدينة الدار البيضاء في الاستعانة بمقدمي الخدمات المتعاقدين معها لتحديث ممارسات الإدارة، وتحسين جودة الخدمات البلدية، وزيادة الاستثمار في البنية التحتية والخدمات في المناطق الحضرية، مما ساهم في تعزيز حيوية المدينة بشكل عام.
وستظل القدرات المالية للمدن محدودة ما دامت العقود الاجتماعية بين حكومات المدن والمواطنين ضعيفة. وتدرك قيادات المدن أن لديها على الأقل ثلاث أساليب لتعبئة التمويل اللازم لمشروعات البنية التحتية وتقديم الخدمات، تتمثل في فرض ضرائب على قيمة الأراضي والممتلكات العقارية، وإقامة شراكات بين القطاعين العام والخاص، وتعبئة الأموال من أسواق رأس المال. وتتمثل العقبة الرئيسية في الحوكمة، حيث يتعين على سلطات المدن تنفيذ تدابير لتعزيز الشرعية والثقة.
ومن الممكن تعزيز قدرة المدن في البلدان النامية على امتصاص الصدمات لصالح سكانها على غرار ما تم في مدن البلدان المتقدمة. وقد تكون هذه العملية شاقة، لكن يمكن القيام بها، وقد حان الوقت للبدء فيها.
انضم إلى النقاش